‫الرئيسية‬ الصحة والجمال أسرة ومجتمع همسات الأبيض والأسود في لوحات فاطمة حسن بقاعة دروب
أسرة ومجتمع - فن وثقافة - 29 يناير، 2020

همسات الأبيض والأسود في لوحات فاطمة حسن بقاعة دروب

وهيب لموقع البيان

 


لا ضوء بغير قتَامةٍ، ولا قتامة إلا ومسكونةٌ بضوء ما، أو ما قال به هيراقليطس الفيلسوف اليوناني عن صراع الأضداد أو الثنائيات المتضادة، تلك الثنائية التي ظلت ولا تزال تحكم رؤية معظم البشر، وبدون وجود اللون الأسود لن ندرك اللون الأبيض، وبغير وقوع المرض لن ندرك قيمة الصحة، وبلا ظلمة لن يكون النور ذا قيمةٍ؛ ولن تكون لنا حاجة به، كما بالقبح في الأشكال والأفعال والتصرفات لن ندرك ما للجمال من وجود وما يحدثه من راحة بصرية ونفسية، فالثنائيات هي التي تعمل في أذهاننا وتنتج ما نراه من رؤى وأحكام على الأشياء والكائنات.

وفي لوحاتها، التي تضمنها معرضها المتنوع بين المائيات واللوحات الزيتية سواء ما أنجزته منها بالفرشاة أو بسكين المعجون، بدا وكأنها تعزف سيمفونية ضوء وظلال ليس بتقليدية الظل كنتيجة لضوء ما، بل ربما أضاءت العتمة اللوحة أكثر من تهشيرات البياض المتناثرة هنا وهناك، ويتجلى هذا ويتكشف شيئا فشيئا في معظم لوحات معرضها الذي تم افتتاحه مساء الثلاثاء 29 يناير الحالي ويستمر لمدة أسبوعين بقاعة “دروب” في منطقة جاردن سيتي بالقاهرة، أمام السفارة الأمريكية، يتبين أن “الفنانة فاطمة حسن”هنا لا تدرك  قيمة هذه الثنائية وحسب، بل تقرأ بريشتها وعبر لغتها اللونية المتميزة، ما يعتمل داخل هذه الثنائية وما بين ضدياتها، وهو ما يتجلى في تنويعاتها على اللونين الأبيض والأسود، ومن القتامة إلى النور عبر تدرجات تشتمل الرصاصي والرمادي، ولم يأت اختيارها للزهور المبهجة أوالفواكه مثل الرُّمَّان كتكوين ومرأى مجرد اختيار لوحدات من الطبيعة لتخلق تكوينات لوحاتها، بل هو حضور رؤيوي لما وراء المشهد أو الشكل، خاصةً وأنها اختارت هيئة ومنظور وموضوع يحلو للبعض تسميته بالطبيعة الصامتة، وبرأيي هذه التسمية يجافيها الصواب كثيرًا، فالطبيعة أو الأشياء الطبيعية حتى لو كانت جمادًا أو حجرًا لا تخلو مطلقًا من حركة وكلام وإيحاءات ورسائل متعددة، وإلا لمَ رسمها الفنان؟! ولعلي أستعيد قول أحد مبدعي النحت؛ إذ يكشف: “إنني لا أتحرك تجاه الحجر بالإزميل إلا حين يناديني التمثال الساكن فيه”. وعلى ذلك فإن ماتقوله اللوحة أكثر ما تصمت عنه حتى لو أسماها البعض بـ “الطبيعة الصامتة”!

وما يلفت في لوحات “فاطمة حسن” ذلك الحضور اللوني الهامس في بعضها، أو ذلك الانفجار اللوني الخافت في بعضها الآخر، وهو ما نراه على سبيل المثال في لوحات التي برعت فيها الرسامة في استخدام درجات الأسود حتى أن الأبيض بدا وكأنه وليد من هذا اللون الأساس، وليس طارئًا عليه أو حالة مضادة له كما هو معتادٌ أو متوقعٌ، وهذا ما يجعل المنظور وحصيلة الرؤيا للوحة كمشهدية ثابتة، أن هناك حركة وتوالد في حالة استمرار، لا سكون إذن أوجمود، كما توحي به تلك التسمية المجانية المستهلكة “طبيعة صامتة”، فها هي تنطق عبر تولدات اللون في اللوحة التي تحوي زجاجة الشمبانيا وسطل الثلج بجوارها ونجحت فرشاة الرسامة في اصطياد فرحة الفوران في بهجة بياض قطع الثلج وحول السطل والزجاجة التي بدا أنها لم يتم فتحها حتى الانتهاء من إنجاز اللوحة!

وقدر ما تحمل مائيات “فاطمة حسن” الكثير من السعي لالتقاط روح الزهور في علاقاتها بالإناء الذي من المفترض أن يحويها، إلا أن شفافية المائيات في اللوحة تقول شيئًا آخر، حيث تغادر الزهور أو هكذا تبدو محاولة الابتعاد قدر الإمكان عن حيز هذه الآنية “الفازات” فلا تختنق جذوعها في فوهته، وما يلفت أيضًا تلك اللمسات التي تجعل العين تغادر الانطباع الزخرفي المباشر لوحدة الزهور ككيان مادي طبيعي إلى الغوص في أعماق ماورائية المشهد، بفضل تلك الخلفية في بعض لوحات لم تأت هكذا عبثًا في لوحة الفازة ذات اللون الطوبي وزهورها التي بدت وكأنها بازغة عبر الأصفر المائل إلى الدكنة المشوبة بالأخضر، فالخلفية بدت وكأنها شباك ينفذ منه الضوء إلى الزهور وبقية اللوحة.

وليس جديدًا أن تكون الزهور مصدرًا للفرح أوالمتعة البصرية، وكذلك حبات الرُّمّان بزهوها الوردي، ما يجعلها تتقارب والزهور في تجلياتها التي تثير من الفرح النفسي قدرًا إن لم يزد عما تفعله الزهور، فهي على الأقل حالة متماثلة معها، لكن الجديد في لوحات “فاطمة حسن” أنها رغم ما تبثه من بهجة في ثنايا الروح، إلا أنها تطرح أسئلة وجودية بما تفعله تلك المشاهد التي رغم وجودها داخل إطار اللوحة، إلا أنها في حركة قد تكون خافتة قليلاً هنا أو متواترة متدفقة كدلق حبات الثلج في لوحة زجاجة الشمبانيا مثلاً.
إن الكثير من لوحات “فاطمة حسن” يساعدنا في العثور على الضوء داخلنا، لنكون أوعية للنور بديلاً عن القتامة في حياتنا اليومية، وما من شأنه أن يوقظ- أيضًا- غُدد الفرح التي تعطلت نتيجة سيطرة اللون الأسود القاتم المرتبط بالحزن والكآبة في أذهاننا، وكأن الفنان دون أن تدري تمد لنا أيدي الشفاء مما يساورنا ويحبطنا من قبح ومآسي، وتدعونا ألوانها المائية الشفيفة إلى العثور على النضارة في حياتنا الخاصة والوصول، كي نكون قادرين على مواجهة أي ظلمة بما نختزنه من بقع النور داخلنا، وبما يمكننا من مساعدة والأخذ بيد من نراهم من الذين حولنا، وقد كادت الكآبة وقتامة الحياة في بعض حالاتها أن تفترس بعضهم.

في الأخير إن مائيات فاطمة حسن، حالة متميزة من حالات الفن التي تنتزع الإنسان من قسوة وضغوطات الواقع، بما يمكننا أن نضيء ولو همسًا في طُرقٍ هجرتها السعادة، مهما حاول البعض قتل الجمال داخل أنفسنا عبر ما يبثونه في أنفسنا من خوف وتهديد ووعيد إن أرحنا أرواحنا لحظة على شواطئ الجمال.

      

اترك تعليقاً

‫شاهد أيضًا‬

أوهام السياسة-1-الخطابُ القَبَليُّ

أوهام السياسة-1-الخطابُ القَبَليُّ وسينتصر لبنان الإنسان! يوسف وهيب يا لها من ثقة مفتعلة، …