‫الرئيسية‬ الأخبار فن وثقافة كمال بكر.. شاي المحبة
فن وثقافة - منوعات - 19 نوفمبر، 2020

كمال بكر.. شاي المحبة

كاد المقرئ يفطس ضحكا من قوله: قول ياخويا تاني قول يا لعّيب!

بكر2

حتى الستينيات ومنتصف السبعينيات؛ لم تكن معظم قرانا تعرف مفهوم المقاهي ولا مسمى القهوة سواءً كنت تعني المكان “المقهى” أو المشروب المعروف “البن” فهو مشروب الميسورين وضيوفهم من البندر، وقلة قليلة كانت توزعه في المآتم، ورغم ذلك كانت السيدات الكبيرات تحرصن على شراء البن من “محمصة السراج” كلما ذهبن إلى ملوي، وتخزينه في برطمان بالبيت ليستخدمنه كإسعافات أولية لمن نالته بطحة أو شُجّتْ رأسه أو قدمه لأي سبب، وما أن تسمع إحداهن أن ابن فلان “اتعوّر” تجري إلى برطمانها وتأتي بالعلاج الناجع وهو عبارة عن حُفنة من البن تكبس بها الجرح حتى يتوقف النزيف. أما في الشارع الذي يشق قلندول من أولها جنوبًا حتى نهايتها شمالاً، وخاصة في المنطقة القريبة من دكان الحاجة منار بعد الكنيسة الإنجيلية ببيوت قليلة، كان “عم كمال بكر” هو المسعف لأي مجروح بالبن الذي لا يخلو بيته منه.

أماكن اللقاءات الوحيدة في زماننا، كانت إما مركز الشباب البسيط، أوالكباري الصغيرة فوق الترعة- آنذاك- فقد تم ردمها أو تغطيتها في السنوات الأخيرة، تلك الكباري كان أجدادنا يطلقون عليها تسميتها الحَقّة وهي القنطرة، وفي المساءات تكون لقاءات الشباب والكبار في الوسعاية وموضعها دائمًا في وسط القرية، وهي أيضًا مكان سوق الخميس أو الأحد، وفي الغالب تكون أمام مسجد البلدة الكبير، أو على “الغُرزة” أو”نَصْبة الشاي”، ومثل هذه الغُرز كان معظم زبائنها من فلاحي اليومية، والجمّالين، يجلسون عليها من بعد العصر وحتى صلاة العشاء، فيعود كل منهم إلى منزله لتناول العشاء مع أهل بيته، كان من النادر أن يجلس عليها الشباب آنذاك، تبعًا لتعليمات آبائهم، وعلى جانب من وسعاية الجامع الكبير كانت “نصبة الشاي” لصاحبها عمنا كمال بكر، وما أدراكم من هو كمال أبو بكر!

من عاصروه مثلي يتذكرون ذلك الشاب الأربعيني الذي يتدفق حيويةً وحضورًا؛ سواء في حركته وهو يوزع المشاريب على زبائنه، أو وهو يشاكس بعضهم بعبارات لا ينتجها سواه، ولا يجرؤ على قولها غيره، والجميع يضحكون في محبة وبهجة، أما لو تصادف ووقفت تتأمله حين يُشَغّل “البكْرجْ” وهو البراد الكبير الذي يغلي فيه الشاي، ويصبه في البراد الثاني الذي يضع فيه السكر ويواصل دلق الشاي من هذا البكرج لذاك البرّاد الزنك الأبيض المستطيل قليلاً، فأنت تستمتع بسيمفونية يعزفها لاعب سيرك محترف، وحين يصب الشاي في الأكواب فأنت ترى يده ترتفع بالبراد إلى أعلى والكوب بيده الثانية أسفل وسطه وترى مجرورًا من عسجد يتدفق بقوة وانتظام؛ ويذهلك أنه يتوقف عند حد معين لا يتخطاه في مساواة غريبة لكمية الشاي في كل الأكواب! أما التحدي الاكبر لمخيلتك حين تراه يمسك كوبين أو ثلاثة مرة واحدة في كف يده اليسرى ويصب باليمنى الشاي فيهم بالطريقة نفسها من البراد الكبير ذاته، حتى عندما كبرنا وصرنا شبابًا كانت هذه الحركة البديعة تذهلنا، ونراها عملاً من أعمال الإبهار التي لا يأتيها إلا أمهر الحواة المتمرسين! رحمك الله ياعم كمال؛ لقد ذكرتني الآن بصديقي وأخي الحبيب ربيع أحمد خروبة رحمه الله، حين كان يشاكسك بقوله: “عليّ النعمة ولا مارادونا وهو بينطط الكورة على راسه أو بيغزّل اللعيبة”.

ودونًا عن باعة الشاي الآخرين وأصحاب المقاهي الصغيرة، كان كمال أبو بكر أشيكهم وأنظفهم، جلبابه نظيف دائمًا، يعتني دومًا بغسل عدته من بكارج وأكواب بالماء المغلي والصابون، لا يغلي “التِّفل” مرتين و”التِّفل”هو ما بقى من مسحوق الشاي بعد غليه المرة الأولى، وكان له قول شهير لا يخلو من فلسفة وفكاهةٍ في آنٍ: البني آدم بيموت مرة واحدة واحنا ليه نموت الشاي كذا مرة.. ده حتى يبقى حرام” لذلك كان أطيب شاي ممكن تتذوقه من عند عمك كمال بكر، وسعره قد يذهل أبناء الجيل الحالي، فكان على أيام أبناء جيلنا بقرش صاغ واحد ثم بقرشين! غير أن أهم ما يميزه عن الآخرين أيضًا أنه كان الوحيد في قلندول بين أصحاب المقاهي من تجد عنده “بن” وياحظك لو شربت فنجان قهوة من يد عمنا كمال!

والذي لم يسعده زمانه ليرى عمنا كمال بكر في ليلة المولد وفي السهرات القرآنية، خاصة إذا استقدم أحد الميسورين من أهالي البلدة المقرئ المعروف الشيخ محمد كامل من ملوي، فإنه ما عرف عمنا كمال وشخصيته المرحة المنفعلة بما يسمع، وله في ذلك مواقف ولقطات طريفة يحفظها معاصروه، ومنها أنه كان يصرخ بصوت عالٍ مشجعًا القارئ؛ بقوله: “أيوووه ياخويا.. أيوووه يا سِيدِي اشجيني واطربني قوووول كمااان.. قوول يا لعّيب! الله يفتح عليييييك”. وهنا انفجر الشيخ كامل ضحكًا، وقال له: وهو الخطيب أعمى زيي يا كمال؟!أما يوم الخميس، فكأنه العرس الحقيقي لعم كمال، حيث يقام السوق الأسبوعي للبلد ومن لم يره في هذا اليوم فكأنه لم يره أبدًا، جلبابه الأبيض المزهزه وتحته فانلته المزهرة بالزهرة لونها سماوي وفوقها الصديري مفتوح الأزرار، وكأنه يتهيأ لعرس هذا اليوم، ولِمَ لا؟ فالحضور اليوم لن يكون هينًا، فأول الجالسين عنده على الكنبة هو العمدة يحيى عبد العليم الذي اعتاد الجلوس ومعه الحاج محمود أبو خليفة شيخ الخفراء والحاج ريان أقدم الخفراء وقتها، وقد تولى مشيخة الخفراء بعد وفاة الشيخ محمود خليفة وعبد الحسيب وبهيج فنيار- الخفيران، في هذا اليوم وحتى انتهاء السوق، لمتابعة الحالة الأمنية، حتى إذا حدثت- لا قدر الله- مشكلة يتم احتواؤها من البداية، حتى لا تتفاقم الأمور وتصل إلى نقطة الشرطة أو المركز.

عمنا كمال بكر كان يعيش الحياة كما تستحق من جديّة ومزاح معًا، وبفطرته يبدو أنه كان مدركًا لعبثية الحياة هذه، فكان يمارس ألعابه البهلوانية في عمله، لم يتغير طيلة حياته كان منفتحًا على الجميع ليس عنده هذا غريب أو قريب، محبًّا للكل، كريمًا، مضيافًا، ابتسامته تسبقه في الترحيب بك كأنها حضن عزيز يحتويك، معاصروه ومن هم في مثل سنه، كانوا يروون عنه “أنه طول عمره عنوان النزاهة والكرم ومتدلع من يومه” فقد كان أصغر أشقائه، فهو خامس أربعة هم كل من؛ رياض وكامل وعبدالهادي وشعبان بكر، رحم الله الجميع.

اترك تعليقاً

‫شاهد أيضًا‬

فهد العتيق قاطع طريق روائي

.. “قاطع طريق مفقود”.. ما أن تقع عيناك على هذه الجملة فوق غلاف رواية فهد العتي…