‫الرئيسية‬ الأخبار أخبار السعودية إذعان صغير.. ذكريات الأمس المقبل
أخبار السعودية - فن وثقافة - 21 فبراير، 2024

إذعان صغير.. ذكريات الأمس المقبل

ذاكرة الطفل المتمرد تهشم سلطة التجهم

 ..ما هو الحدُّ الفاصل بين أن تحكي أوتكتب قصة؟!

  أن تحكي أي أنك تقول شفاهةً دون هدف محدد أو انتظار شيء غير إزجاء الوقت، أوكهدف بعيد وتمثله المكافأة التي يأتي بها تأمين السامعين أوانبهارهم، لكن أن تكتب القصة باعتبارها تلك القطعة أوالنتفة من جسد الواقع، لكنها مغايرةٌ له في آنٍ تبعًا للرسالة التي تحملها أوالشِفرة التي تفتح مدارات التفكير والخيال لدى المتلقي؛ لتنتج حالة أخرى تتوازى، أوتتقاطع مع الحالة المطروحة بالنص.

 وتمثل مجموعة “إذعان صغير” هذا الحد الفاصل بين الحكي والكتابة، بين الشفاهي وشفرة الفن، وهي “أي المجموعة” من الأعمال الباكرة التي صدرت للمبدع الصديق فهد العتيق، أوقُلْ هي أول ما وقع بين يدي من أعماله كمجموعة قصصية مطبوعة في كتاب حين صدرت ضمن سلسلة “مختارات فصول” 1992 التي كانت تصدرها الهيئة المصرية العامة للكتاب، وتقوم عليها تلك المطبوعة الرصينة المحكمة “مجلة فصول” برئاسة تحرير الناقد الراحل د. عز الدين إسماعيل. وذلك بعد سنوات من تعارفنا إبداعيًّا عبر مجلة “إبداع” وتصدرها أيضًا الهيئة المصرية العامة للكتاب برئاسة تحرير الناقد الكبير د. عبدالقادر القط في نهايات الثمانينيات، وللمصادفة كان منشورًا لفهد العتيق بعدد “إبداع” شهر أكتوبر 1989 باب القصة نص “إذعان صغير”، وفي العدد ذاته، باب الشعر كانت قصيدتي “البناتُ الرُّخَام”. مرَّ أكثر من 35عامًا على أول لقاء إبداعي عبر المجلات، ولم نلتق إلا افتراضيًّا أيضا عبر صفحات موقع فيسبوك، وكم كان الفرح كبيرًا! واتسعت مساحته حين لبي فهد مطلبي بإرسال المجموعة بصيغتي الـ “بي دي إف” والـ “ووورد”، وها هي الغبطة تتزايد بقراءة تلك النصوص المحملة بجمال إبداعي نادر.

   ما يلفت النظر في بدايات قصص ” إذعان صغير” هو تكرر استخدام صيغة دلاتها عما كان ومثيلاتها، أو حروف الجر مثل “في” و”لـ”، ما يشيع تلك الحالة الشعرية التي تسري في معظم قصص المجموعة، باعتبارها أي تلك الحالة الشعرية هي ما يَسِمُ حالة التذكر تلك التي يؤطرها بداءةً؛ بل يفجرها الفعل الماضي الذي تكرر استعماله في بدايات كثير من القصص. لكنها تتبدى بشكلٍ جليٍّ سواءً كراوٍ شعبيٍّ أوكمقاطع لقصيدة نثرية في قصص “فوزان يقرأ الشوارع ليلًا”، و”عمود التراب”، و”متتاليات ليلة البارحة”.

 غير أن حالات التذكر هذه؛ أوالتي تبدو كذلك، لا تقف عند حدود استمراء حالات ماضوية أو البكاء على أطلالٍ ذوت حالاتها وتوهجاتها؛ بل هي أشبه بتقرير للمستقبل/ الواقع في خفايا دائرة الحلم الذي لا يتم التعبير عنه صراحة. ما يؤيد هذه الرؤية هي تلك الرؤيا الفاعلة التي نجح “العتيق” في نسجها من جسد الحالة المطروحة وبلغة الحالة ذاتها آن حدوثاتها، إن افترضنا جدلًا هذا الحدوث، وإن لم يكن حدث واقعيًا فحدوثه الفني في ذلك النسج القصصي بلسان الراوي/ الطفل في قصص مثل “حصة الرسم” و”شروق البيت” هو ما يمثل الفعل مقابل ما يقع في مظان البعض باعتبار التذكر مجرد رفاهةٍ، أوما ينطوي عليه من”نوستالجيا” لا تفضي لشيء سوى التباكي على ماضٍ ولَّى. هي تمضي ولا تفضي، تمضي إلى تحقيق ما يحلم به الراوي/ الطفل، وهو ما يحققه بالفعل في الكتابة، سواءً بالانسلاخ من سلطة القهر المتمثلة في شخصية المدرس في قصة “حصة الرسم”، أوسلطة العائلة في “شروق البيت”، إن الراوي/ الكاتب هنا هو الذي يصنع بعقله ويديه هذا الشروق الجديد/ النهضة أوالتطور الذي يريده الكاتب لوطنه الصغير البيت، أو لـ”ذاته” وبالتالي لذوات أخرى كثيرة في وطنه أوخارجه؛ تلك الذوات التي يمثلها بالتأكيد نحن المتلقين لهذا النص أوغيره، وهو ما يحدث نوعًا من التفاعل، والانتقال من الحياد القرائي البارد إلى التورّط الفاعل.

 ولا يُغفل أبدًا- وامتدادًا للحالة الشعرية أوالشعورية أوالاثنين معًا- ذلك النزوع نحو التشكيل بالكتابة في أول قصص المجموعة “حصة الرسم” بما فيها وصفه لحجرة الدراسة في زمان ما قبل النفط أو/في المناطق الفقيرة “جدران الحجرة صفراء يتساقط جيرها من آثار المطر، ومن السقف تنزل خطوط حمراء لطين جف منذ زمن، وفى الزاويا تبرز شروخ سوداء كأنما هي أنهار جارية على كف أرض رطبة، وبين الزوايا الأنهار، في مساحات الجدران الصفراء، تقرأ تواريخ وذكريات وكتابات متقاطعة، وترى رسومات لوجوه مشوهة.”

  نحن هنا أمام لوحة تشكيلية لا تخطئها عين القارئ، بالتأكيد بمساعدة مهارة الكاتب الذي نجح بهذا في جعل أعيننا تغادر حروف الكلمات المطبوعة على الورق أو/على شاشة الأجهزة الرقمية سواءً كان كمبيوتر أو/هاتفًا ذكيًا صغيرًا. لتتلاقى؛ بل تتوغل في لوحة حيَّة لا تزال تتشكل، غير أن تلك الحيلة التشكيلية من قِبَلِ الكاتب- رُغمَ أهميتها وجزالتها التصويرية- لن تشغلنا بطبيعة الحال عما يتبدَّى من قهر وتسلط، تمثلهما سلطة المدرس وعدْوَى النوم. غير أن العتيق يصنع من هذه الحالة المتراخية التي تدعو للسكون والدّعة حالة انفجارٍ وثورةٍ نحو الفعل، وهو ما مثلته حالة الطفل “خالد” كاره النوم اليقظ دومًا، لذا فهو من يستطيع اقتناص حريته وفعله الإبداعي وقت نوم الآخرين (الفصل كله ومُدَرِّسه) فيرسم منتقمًا من جبروت المدرس لوحة تمثله نائمًا!

 وفي قصة “شروق البيت” يستمر التأمل في سقف البيت وجدرانه، وكذلك الرصد التشكيلي لضحى البيت وحالة الحارة ونسائها:

 “امتلأت بإحساس أن الصباح دائماً لنساء الحارات بينما المساء للرجال ولطلاب المدارس”

 ولِمَ لا؟ فالنساء هنَّ صانعات الصباح لأولادهن وأزواجهن بما يمثله من بهجة وفطور واغتسال وتجدد أيضًا. ذلك التجدد وهو مسعى الكاتب، أوهو ذلك الهمُّ الأبديُّ الذي يحمله على كتفه ويحمِّلهُ أيضًا على عاتق وفي شرايين نصوصه. ولا يغيب الكاتب رصد جوانيته وما يعتمل في عقل وروح ذلك الطفل:

  “ولا أدري لماذا شعرت أنني لا أكره المدرسة فقط، بل إنني أكره البيت أيضاً بشكل غامض.”

 وليست هنا مجافاة لتصورات شبه ما هي عليه؛ أن مقابل هذه الخنقات التي لا يجد لها مبررًا، يكون اللجوء الإنسان لنفسه، وهو ما يجسده مفهوم “غرفتي الصغيرة” فهي إذن وعاء للروح أوهي عالم أرحب من كل الضغوطات الخارجية رغم اتساع وجوداتها مكانيًّا، وبمعنى آخر هي الروح ذاتها، أو/هي تلك الصدفة التي تحتمي بها “الأنا الفرد” في مقابل ضغوطات ذلك المجموع الخارجي من سلطة مجتمع، وسلطة والدية ومدرسين وغيرها. أو/كما يرصد هذا بدقة في السطرين الأخيرين من القصة: “نظرتُ إلى الأوراق حوله في عُتمة الغرفة. كان الخيط الشمسيُّ اللذيذ الذي يطلُّ عليَّ من نافذة الغرفة الصغيرة يضيءُ بشمسٍ صغيرةٍ رسمتُها في إحدى الأوراق.”

  ونأتي إلى القصة التي تحمل المجموعة عنوانها “إذعان صغير” وتحار أول الأمر إن كان تشكيل الكلمات سيلعب دورًا في الفهم، فعلى سبيل المثال قد تقرأها إذعانٌ صغيرٌ” بحيث يكون هنا الوصف بالصِّغَر لفعل الإذعان أوالمثول ذاته، وقد يقرأها غيرك “إذعانُ صغيرٍ” بحيث تعود هنا صفة الصِّغَر على المُذعَن نفسه، ومهما يكن من أمرٍ نحن هنا أيضًا مذعنون بشكل أوبآخر للمفهوم الكلي لمعطيات القصة ذاتها، فذلك المواطن/ النموذج شبه الكافكاوي، الذي وجد نفسه فجأة مطلوب للإذعان، أوالمثول أمام جهة تحقيقٍ أسماها الكاتب مكتب الحقوق المدنية. غير أننا نلحظ أيضًا استمرار المشاكسات الطفولية، ولكنها هذه المرة مقصودة تمامًا؛ إذ أن مرتكبها شخص بالغ وليس طفلاً كما في قصتيِّ “حصة الرسم” و”شروق البيت”، وتتحول إلى ما يشبه التمرد ولو على مستوى الشكل الوجودي للمذعَن ومكان الإذعان:

 “ورأيت جارى فجأة يجلس قبالتى على يمين مدير المكتب، نهضت بسرعة، شددت على يده وأنا أضحك، سألته: وأنت أيضاً طلبوا منك أن تذعن ؟، ابتعد بوجهه عني، عدت إلى الكرسي مهزومًا..”

أطفال الجار يرجمون الحمام الذي يربيه على سطح داره، فينقلب الأمر لدى جهة التحقيق إلى أن جريمته تتلخص أنه يربي الحمام، لا فيمن يرجمون الحمام المسكين المسالم بالأحجار! وهذا تأشير على قمة العبث بقلب الحقائق التي تصالح عليها البشر! وكأن هناك رسالة خفية تبثها مكنونات القصة تسلب حقوق المسالمين “مربي الحمام” وتمنح هذا الحق للقَتَلة ومثيري الضجيج والإرباك ممن يطاردون الحمام بأحجارهم! لكن تشبث الكاتب أوبالحري شخص المذعَن بالحلم بما يشتشرفه في الغد أن الأمور لن تكون على ماهي عليه: “دخلت بيتي زرت دورة المياه، اغتسلت، وعدت إلى مرقدي مرة أخرى، ورأيت فيما يرى النائم ولم أكن بنائم، أنني أبيع الحمام الجميل، وكنت أرى جاري، وأطفاله، ومدير مكتب الحقوق، على سطح بيت جاري، يبنون الأعشاش ويطيرون حماماً جميلاً في فضاء الحارة، يومئون له بالبيارق الحمراء.. و.. كانوا يتضاحكون في وجهي.”

 وتتبدى السخرية الحارقة في قوله: “جئت كي أُذعِنَ.. إلى قوله “ونحن مواطنون مذعنون بشكل أوبآخر، كما أن..”.. ويحدث القطع بأمر المحقق بطبيعة الحال

 أما قصة “فوزان يقرأ الشوارع ليلاً” فهي نسج مختلف عما سبقها من قصص، من حيث استلهامها حالة الراوي الشعبي الذي يؤنسه غناؤه ومواويله، أوذلك الذي ينعي ذاته تلك الذات التي طحنتها المدينة وغرّبَتهافها هو مرةً حفار قبور ومرة يرى نفسه سائق تاكسي، وثالثة هو يرى او هم يتوهمونه صاحب جن، وطفل قبيلة، أوكما يقول نصًا:

 “اسقيني يا أمي، اسقيني أو مُدِّي لي من رائحة التراب، فأنا مازلت حفارُ قبر، وسائقُ (تاكسي) وصاحـبُ جن، وطفلُ قبيلة، موطوءٌ من رأسه حتى أخمص قدميه، هذه المدينة وهذا الوقت، وهذا العفن..”

 هكذا تتداخل الأوصاف أو الإيهامات حول الذات وإن بدت شبه حقيقية للراوي، فهو يرى نفسه في وجوه كثيرة أو هو متعدد الأوجه:

 “استلقيـت ثم رحـت في إغفاءة طويلة، ثم كانت الشمس تنشر بعض خيوطها الصفراء، حين أفقت ورأيتني وجها لثلاثة وجوه أمامي ثلاثة شبان، كانوا نائمين في المرتبة الخلفية.”

القاص فهد العتيق- السعودية

 

 

 

 

اترك تعليقاً

‫شاهد أيضًا‬

ماتريوشكا قارورة المحيميد

.. “هكذا علمتني أمي منذ الطفولة؛ أن أحترس من الغرباء، أن أنكفئ إلى داخلي، أن أختزن ع…