‫الرئيسية‬ الأخبار فن وثقافة المعلم أيوب.. صوتٌ يتحدَّى الظلام
فن وثقافة - منوعات - 25 أكتوبر، 2020

المعلم أيوب.. صوتٌ يتحدَّى الظلام

رغم أنه كفيف كان يمشي لمسافة 3 كيلومترات دون عصا ترشده أو أحد يقوده!

المعلم أيوب..

المعلم أيوب.. صوتٌ يتحدَّى الظلام أضواء الشموع الممتزجة بتضوّع البخور مع صوته العميق المجلجل في أرجاء الكنيسة؛ تجعلنا خفافًا، وكان الواحد منّا يشعر وكأنه في لحظة ما سيطير ويُحلّق في أجواء روحانية، أوعلى مستوى وعينا كصغار آنذاك، كانت تقودنا إلى عوالم الأحلام، صوته لا يصل فقط إلى كل من بداخل الكنيسة، بل يسمعه المارة بالقرب منها أو على بعد أمتار، كان ذلك في زمن لم يكن يعرف مكبرات الصوت بعد، بل هو ليس في حاجة إليها، تنْجلي حنجرته القوية وتغرد أحباله الصوتية، وهو يرد وراء أبينا يوحنا عبد الله بجملة “كير ياليسون أو يارب ارحم” ينغمها بما يجعلها تنفذ إلى الروح ويشبعها خشوعًا وجلالاً حتي يخال إليك أنها حتما تخترق حجب السموات!

ورغم أنه ارتبط بعلاقات محبة مع معظم أهالي قلندول، المسلمون منهم قبل المسيحيين، إلا أن كثيرين منهم ما كانوا يذكرون بقية اسمه، بمن فيهم المسيحيون، ولا هم فيما يبدو اهتموا كثيرًا بهذا الأمر، غير أننا نحن الصغار استقرت في رؤوسنا أساطير كثيرة عنه، منها أن المعلم أيوب نشأ هكذا في الكنيسة، بل وُجِد هو أولاً، ثم بنوا حوله ومن أجله كنيسة مارجرجس بقلندول- ملوي- المنيا! أما الكبار فلم يكن يعنيهم منه إلاّ روحه الحلوة معهم، والأهم صوته القوي الرائع الذي يحلق بهم في أجواء روحانية كل أحد أو في صلوات العشية، الجميع يحسدون مجاوري الكنيسة الأرثوذكسية لأنهم محظوظون إذ كانوا يستمتعون بتنغيماته كل شروق شمس وهو يتلو ويترنم بصلاة باكر في غرفته، كأن قطرات ندى تتساقط على صدورهم فتجلو ما تركه الليل أو اليوم الفائت من كآبة وآلام، ربما اثنان أو ثلاثة فقط يعرفون الاسم كاملاً، هم الأب يوحنا عبدالله راعي الكنيسة والمقدس سعد موسى والمقدس فضيل جبران وهما ضمن القائمين على الشئون الإدارية والمالية تبرعًامنهما.

 

المعلم أيوب.. صوتٌ يتحدَّى الظلام اللافت في تلك الأيام؛ أن مسمى “المعلم أيوب” أو “المعلم” كانا فقط لا يدلان على أحد سواه، حتى لو تعدد الأشخاص الذين يلقبهم الناس بـ”المعلم”، سواء كان هذا المعلم من البنائين أوالنجارين أو النقاشين والمنجدين والسباكين، وغيرهم.

“يا معلم.. يا معلم” هكذا كنا نناديه ونحن صغار ونكرر النداء مرتين أو ثلاث مرات، ولا أدري حتى الآن؛ إن كانت تلك لجاجة أطفال، أم أنه استقر في لاوعينا آنذاك، ودونما ندري، أن الكفيف مثل المعلم أيوب لا يسمع من أول مرة؟! وليس هذا الأمر وحده هو الذي ما يزال كلما تأملّه أبناء جيلنا ومن سبقونا، بل أن ماكان يثير التساؤلات بل والدهشة- حيال المعلم أيوب الرجل الضرير ببصره- حدّ الذهول، ما كان يحدث حين نقترب منه، فيربت على أكتافنا، وبمجرد أن يضع كفه على رأس الطفل منا؛ سرعان ما يناديه باسمه: “ازيك يا نبيل” أو “أخبار عم إدوار إيه يا يوسف”، “حفظت اللحن وللا لسه يا عادل؟! وهكذا..

ولا أحد يعرف على وجه التحديد هل هو ولد هكذا كفيفًا؟!، لكن ما كان يتداوله معاصروه أنه جاء إلى قلندول من بلاد بعيدة وألقى رحاله في الكنيسة الأرثوذكسية ، وأخبر محبيه والقريبين منه؛ أنه فقد بصره في صباه نتيجة علاج خاطئ للرمد بالوصفات الشعبية، لذا لم يكن غريبًا علينا وهو يتحدث إلينا عن جمال الطبيعة وكيف أن الخضرة هي لون حضور الله في الكون، والأزرق السمائي هو بخور الملائكة حول العرش الإلهي، ورغم ان عقولنا الصغيرة لم تكن تستوعب ذلك الكلام وتلك الصور الروحية، إلا أنها كانت تترك لدينا انطباعًا بالطمأنينة والجمال، ويدفعنا دونما ندري للتأمل أكثر من الحفظ والبحث عن تعريفات الأشياء، نتأملها أولاً، ونستشف مافيها من جمال.
القاهرة 9 أكتوبر 2020

بورتريهات قلندول
(ديون محبة إلى هؤلاء البسطاء الذين قلّ ما يذكرهم أحد، ولا يعرفهم أبناء الجيل الحالي إلا سماعًا عبر حكايات خاطفة او هوامش حكايات.)..
كتاب يصدر قريبًا لـ يوسف إدوارد وهيب

اترك تعليقاً

‫شاهد أيضًا‬

امتدادات الزمن النفسي في إبداعات محمد حسن علوان

*   على غير نسق مسبق، وخلافًا لما تعارف عليه المهتمون بالرواية؛ إن متلقين أونقادًا وروائيي…