‫الرئيسية‬ الأخبار فن وثقافة الشيخ على يوسف وولده علام!
فن وثقافة - منوعات - 21 أكتوبر، 2020

الشيخ على يوسف وولده علام!

اصطاد الإرهابي بعكازه وقال له:الأم هي الماعون الوحيد المضمون!

الشيخ على يوسف

الشيخ على يوسف وولده علام! بورتريهات قلندول.. (ديون محبة إلى هؤلاء البسطاء الذين قلّ ما يذكرهم أحد، ولا يعرفهم الكثيرون من أحبائنا أبناء الجيل الحالي إلا سماعًا عبر حكايات خاطفة أوهوامش حكايات)..

(1) الشيخ على يوسف وولده علام!

لا شيء مميز أوغريب في قرانا سوى ثلاثة روائح في الزمن القديم، إما رائحة “التقليّة” لزوم الطبيخ يوم الخميس، خاصة وأنه اليوم الوحيد طوال الأسبوع الذي تفوح فيه- ومن معظم البيوت- تلك الرائحة التي كانت مثل منبه يخبرنا أن اليوم هو الخميس، أو رائحة شخص قادم من البندر أو أحد أبناء القرية الذين يمتلكون ثمن زجاجة عطر “ريحة القسيس” علي رأي الفنان “صلاح منصور” في فيلم الزوجة التانية، ولا يعرف أبناء جيلنا ولا حتى الأجيال التي سبقتنا إلا قلة نادرة منهم سر هذه التسمية، أرجعها البعض إلى أن رائحة هذا العطر كانت تقترب من أريج بخور “الطِّيب والعنبر” الذي كان يتصاعد من مبخرة القسيس أثناء القُدّاسات في الكنيسة، والثالثة هى رائحة المسك النفّاذة التي كان يحلو للشيخ علي أبويوسف التطَيّب بها.

الشيخ على يوسف وولده علام! ما أن تصل إلى أنوفنا رائحة المسك نصيح نحن الصغار “تلاميذ الابتدائية” آنذاك: “عمي الشيخ على وصل”.. نجري من بيوتنا مسرعين إلى جسر “طرّاد النيل” حيث يسير عم علي، يغدق علينا من جيوبه أوالشنطة القماش التي يحملها دومًا، ما كان أمثالنا الفقراء يعتبرها فواكه تلك الأيام من حمص وحلويات، عرفنا- فيما بعد- لما كبرنا أنه كان يأتي بها من بلاد متعددة؛ إما من مولدي الحسين والسيدة بالقاهرة، أومولد سيدي الفرغلي بمدينة أبو تيج في أسيوط أومن العارف بالله في محافظة سوهاج.

كان مهيب الطلعة، ودودًا، يلاطف الجميع بالمزاح أو بالحكايا المؤثرة، لم يكن شيخًا بالمعنى المتعارف عليه، غير أنه كان في قرارة نفسه يُفضّل هذين اللقبين من الغرباء”عم علي أوعم الحاج ” أما أعز ألقابه ممن يعرفونه فهي “أبو يوسف وأبو محمود” وهما ابناه، يداعب الصغار ويعطف عليهم، ويمازح الكبار ولا يحرمهم أيضًا من عطاياه الرمزية، وكما يروي معاصروه وأبناء جيله؛ أنه حين تجاوز الخمسين من عمره ترك لحيته هكذا حتى استحال لونها إلى الأبيض بفعل الزمن، منذ صغره يعشق حلقات الذِّكر والمدائح النبوية في التجمعات الصوفية وغيرها، ما سمع عن مُولد أو احتفالية إلا وسافر إليها أينما يكون مكان إقامتها؛ سواءً في القاهرة أوفي محافظات الصعيد الأخرى. ورغم أن عشقه وهواه كان السفر والتنقل بين هذا المولد وذاك، إلا أنه لم يكن درويشًا بالصورة التقليدية، بل كان من المعدودين في المركز كله الذين يهتمون أيما اهتمام بأناقتهم ونظافة ملبسهم، مايميزه عن كثيرين أن وجهه منير دومًا ويبدو أشهبا بفعل هالة اللحية البيضاء التي تحيط به، أو كما كانوا يطلقون عليه “الرجل العترة” وأبو الكرم والشياكة كلها، ويكاد يكون من القلة القليلة التي تمتلك عكاز من الأبنوس رغم أنه لا يحتاجه في المشي بل يتكئ إليه فقط حين يقف أو يجلس، لا يضع جلبابًا على جسمه إلا ويكون مكويًا، وكان مجايلوه وأصدقاؤه يتندرون وهم يفاكهونه وجها لوجه عن شدة اعتنائه بمظهره وملبسه، خاصة “الشيخ موريس أيوب” الذي كان يمازحه كثيرًا بالقول: ده انت ناقص تكوي الشرابات (يقصد الجوارب) كمان يا ابو يوسف” عُمامته مزهّرَة وحذاءه يلمع دائمًا- في زمن كانت الأحذية نادرة في أقدام الناس- وكان يلمعه مرتين؛ الأولى وهو خارج من بيته بقريتنا “قلندول- ملوي- المنيا”، والمرة الثانية حين يصل إلى أي مقهي في المدينة التي يقصدها، ويكرر الأمر يوميًا، ثم يعيد الكَرّة في طريق عودته.

الشيخ على يوسف وولده علام! بيته الملاصق للكنيسة القبطية، رغم وقوعه في شارع ضيق، إلا أنه كان أرحب الشوارع، وكان بيته أكبر البيوت كرمًا ومحبة للآخرين، ما أن يخرج من الشارع ويتجه يمينا إلى دكان سعد موسى، يجد أبونا يوحنا عبدالله جالسًا أمامه، يحييه ويمازحه قائلاً: “وحياة المسيح الحي يا ابونا احسن سيجارة (شاهين بحاري) اللي باخدها منك” يضحكان ويشربان الشاي مع سعد أبو موسى، وقبل أن ينصرف يقول للقمص يوحنا: والله العظيم أنا مش ناسي يا ابونا، كيلة القمح اللي وعدتك بها تعمل القربان، بس ماتنسانيش في قربانتين من الكبير الحد (الأحد) الجاي”.

ولأن شجرة العنب لا تطرح ليمونًا أو نارنج، هكذا جاء أولاده، فيهم الكثير من خصاله المرحة الطيبة، ولعل ما حدث بين الشيخ علي مع أصغرهم واسمه “علام” ما يؤكد هذا، حيث غضب منه الشيخ علي في يوم ما وقال له: ياعلام يا ابني، ماتكلمنيش تاني ولساني مش هايخاطب لسانك إلا يوم طبّة الميزان (ويقصد يوم القيامة وحساب الآخرة)” ولأن علام ابن أبيه، ومن حسن طالعه أن الشتاء بدأ، وترصد لأبيه الذي كان يسهر مع صديقه الشيخ موريس أيوب في دكان البقالة، وحين وجد أبيه بمفرده في الدكان، تلثم بالشال كأنه يحتمي من البرد ووقف أمامه، وطلب منه ربع كيلو فول سوداني، وكلما يضع الشيخ علي “كبشة” فول يقول له علام: طبّب الميزان قوي يا بوي علي، فيرد الشيخ علي: أهه طبّ.. كده تمام يا ولدي، هنا يزيح علاّم اللثام عن وجهه ويقول له: ازيك يا بويا! فيضحك الشيخ علي قائلاً: علي النعمة انت ابن أبوك ياولدي!

الشيخ على يوسف وولده علام! في إحدى جولاته المستمرة بين المراكز والمحافظات، أحب أحد النجوع بمحافظة مجاورة، من خلال الذين تعرف إليهم من رجاله وسلوكياتهم الجميلة معه، وكان كلما سأله أحد من بلدته عن سر تعلقه هكذا بتلك البلدة، لا يقول سوى جملتين: “فيها رجالة يتعاشروا، والبلد اللي ألاقي نفسي باضحك فيها من قلبي تبقى بلدي” .. كان لا يمر شهر إلّا ويسافر إلى هناك، عرف أهالي النجع فردًا فردًا، وحكاياتهم ونوادرهم، وخبر الأصلاء منهم وهم كثرة، وقليلي الأصل من خلال سهاري الليالي، وجاء يوم وحدث أنه وأهل البلد فوجئوا بأحد المتنطعين يزيح شيخ الجامع الوحيد بالنجع، ويصر على أن يكون هو الإمام في صلاة العصر، وكان هذا الشاب ممن بدأوا الظهور في منتصف السبعينيات، وكان ساقط دبلوم صنايع، والغريب أنه في البلد لم يكون معروفًا أبدًا باسم أبيه بل كانوا ينادونه باسم أمه، يطلقون عليه دائمًا “حسين ابن أنصاف” وكان لا يحفظ سوى آيتين وبضع أحاديث، لا يعرف إن كان هذا الحديث موضوعًا أوصحيحًا، وهؤلاء كان الشيخ علي يطلق عليهم قوله: “دول اللي طلعوا لنا في المقدّر جديد”، بعد ضجة، وحفاظًا على حرمة المكان وقدسية اللحظات؛ تركه المصلون يؤمهم، وما أن بدأ صاحبنا حتى أخطأ في الآيات، معظم الحضور يضغطون ألسنتهم داخل أفواههم، ويجزون على أسنانهم، الكبار احتملوا وبدأوا يردونه ويصححون له، تكررت الأخطاء، وتحمل المصلون حتى انتهت الصلاة، وفوجئوا بالشيخ علي يتجه إلى الشاب المستشيخ هذا، ويشبك رأس عكازه المحنية حول رقبته ويجره إلى خارج المسجد، وأوقفه وهو يكبل عنقه بعكازه، وقال له: يا واد يا ابن انصاف، أنا طول عمري باحضر دروس علم واسافر لكل محافظات مصر، وكنت فاهم أن الإنسان لما ها ينادوا له باسم أمه يوم القيامة، ده تكريم من ربنا سبحانه وتعالي لقيمة الأم، لكن انت يا ابني أثبت لي معنى تاني خالص، إن الأم هي الماعون الوحيد المضمون، أما الأب فممكن يكون أي حد” انفعل حسين متسائلاً بغضب ممتزج بحزن: قصدك ايه يا عم الشيخ علي، عايز تقول إني مش أصيل؟! ضحك الشيخ علي ورد قائلاً: أبدًا يا ابني أنت أصيل عننا كلنا، الواحد مننا له أب واحد لكن أنت لك 14 أب، وخلع العكاز من رقبته وانهال به على أجنابه وظهره وهو يطارده قائلاً: إياك أشوفك هنا تاني يا بن الـ … “.

مضت بضع سنوات، وجاءت أخبار للشيخ علي أن حسين الإخواني مات مع مجموعة إرهابيين في الجبل الغربي، تأسى الشيخ علي قليلاً، لكنه تهلل ضاحكًا وهو يقول: طالت وللا قصّرت.. سبحانك ياربي مافيش حد يقدر يضحك عليك أبدًا!
ـــــــــــــــــــــــــــ
# بورتريهات قلندول.. كتاب لـ: يوسف وهيب.. يصدر قريبًا

اترك تعليقاً

‫شاهد أيضًا‬

امتدادات الزمن النفسي في إبداعات محمد حسن علوان

*   على غير نسق مسبق، وخلافًا لما تعارف عليه المهتمون بالرواية؛ إن متلقين أونقادًا وروائيي…