‫الرئيسية‬ الأخبار فن وثقافة محمد أبوصالح.. عزاء خاص للزعيم و أم كلثوم!
فن وثقافة - 15 نوفمبر، 2020

محمد أبوصالح.. عزاء خاص للزعيم و أم كلثوم!

حين أقسم أبو حجاج إنه سيخاصم من لم يشاركه أحزانه على عبدالناصر و الست!

محمد أبوصالح..

محمد أبوصالح.. عزاء خاص للزعيم و أم كلثوم! رغم أنه لا يمتلك من حطام الدنيا، سوى قفصين من الجريد يعرض عليهما كميات قليلة مما يبيعه من عنب وبرتقال لا تتجاوز العشرة كيلو جرام في أغلب الأحوال، إلا أنك حين تمر به وهو جالس في عشته على “كوبري أم تسعة”لا يتركك إلا وأنت تشرب الشاي الذي صنعه على المنقد في تلك الكنكة السوداء، ومن كان يشرب كوب الشاي الصاج الأزرق الصغير من يد أبو ماهر وحجاج، لا يحتاج للشاي طول النهار، لا تدرى ماسر هذا الطعم الشهي لهذا الشاي دون غيره حتى مما تصنعه أنت في بيتكم، أهي المحبة أم نوع الشاي وطريقة عمله في دمسة النار أم هي رحابة صدر هذا الرجل الذي لا يكف عن الغناء وإطلاق المواويل؟! ربما كان ذلك كله معا؛ بل بالفعل هو كل ذلك؛ إنها خلطة الإنسانية التي قلما تتكرر.

محمد أبوصالح.. عزاء خاص للزعيم و أم كلثوم! اسمه محمد صالح، أبو ماهر وحجاج، عاصره أبناء جيلي عجوزًا تجاوز الستين، هو وزميله منازع أبو الحاج سيد علامتان بارزتان من علامات الكوبري بل البلدة كلها، يعرفان كل الذين يمرون من هنا، ومن جاء من بندر ملوى ومن ذهب إليها، وهما أول من يعرف بمن عاد من سفر بالخارج، والأهم أن كلاهما كان مصدر الأخبار؛ السار منها والمفزع، فكلاهما يتسلم الخطابات الواردة من بوستة الروضة أو قلندول وتخص أهالي أم تسعة، إضافة إلى أن كليهما كان بمثابة كشك أمني لأطفال القرية وأوزاتها ومعيزها، فكل سيدة يتغيب طفلها، أوتختفي إوزاتها التي ترعى على حافة الترعة وتبلبط هناك، كانت أول شيء تفعله ما أن تخرج من بيتها، تسأل أول ما تسأل واحدًا من اثنين إما الحاج منازع سيد أو الحاج محمد صالح، وكثيرًا ما كان أحدهما من باب الضحك فقط، يصنع المقلب تلو الآخر فيمن تسأله، كأن يقول لها مازحًا ولكن بجديّة؛ أنه رأى فلانة جارتها وهي تذبح الإوزة! وما أن تعود وتصل لبيت جارتها، تشتعل “العركة” بين الاثنتين، ولا تتوقف صاحبة الإوزة التائهة إلا حين تجيء بالمتهمة إلى عمنا أبوماهر لتواجهها أمامه، كل منهما “تشرشح” للأخرى، وينال عم محمد صالح نصيبًا من شتائم وسخائم المرأة التي اتهمها زورًا وهو يمزح، لكنه لا يكف عن الضحك، ويشير لصاحبة الإوزة إلى الترعة أو البربخ كما كان يسميها أهل البلد، وهو يقول: يا بت المجنونة ما هو انت لو قبل ماتسأليني أوبعد ما سألتيني كنت بصيتي في “البربخ” كنت ها تلاقي وزتك! ويصالحهما على بعضهما فتضحكان على ماحدث منهما، وتنهيان الأمر بوابل من المسخرة ضد أبو ماهر، وهو رغم انشغاله بالكنس والرش أمام عشته، لايزال يضحك!

وبعيدًا عن مزاحه الدائم، لا يكف أبو ماهر عن الغناء وإطلاق المواويل، وظل طيلة عمره لديه مساحة خاصة بنفسه، لا يشاركه فيها حتى أولاده، وهي عشقه لسيدة الغناء كوكب الشرق أم كلثوم، أوكما كان يسميها هو “ست الستات والرجالة كمان” ينتظر الخميس الأول من كل شهر وكأنه أحلى الأعياد بالنسبة له، وقبيل آذان المغرب يلملم فرشته وأقفاصه، ويذهب إلى بيته على ترعة الإبراهيمية ويرش ويكنس مساحة صغيرة على شاطء الترعة الشرقي، ثم يدخل إلى بيته ليأتي بالحصير والمنقد وعدة الشاي، والراديو الخاص به الذي لا يجرؤ أي شخص في البيت على مجرد لمسه بإصبعه، فقد حفر له في الحائط مكانًا خاصًا، وغطاه بستارة من قماش قديم، وهذه هي المرة الوحيدة التي يخرج فيها الراديو خارج الدار كل شهر، وما أن يعلن المذيع جلال معوض حضور سيدة الغناء على المسرح، ينظر محمد صالح لكل من حوله، وهذا معناه أنه اللي ها يتكلم نص كلمة بعيدًا عن الآهات بعد انتهاء كل كوبليه، أوجملة الاستحسان الله يا ست الله، وهذا هو المسموح به، ومن يخالف ذلك يبقى ها يمشي من غير مطرود، ويحرم نفسه من الاستماع إلى أغلى راديو، هكذا كان يحذرهم عمنا محمد صالح، ويقصد الراديو الموضوع في برواز من الخشب الغالي وهو الذي أهداه له الدكتور أحمد ماهر عبدالعليم عضو مجلس الأمة عن مركز ملوي آنذاك. وكما روي لي عم محمد صالح في إحدى جلساتي القليلة معه وأنا طالب بالثانوية، حيث كانت عشته ملاذًا آمنا لنا لكي ندخن في أمان دون يرانا آباؤنا أو أقرباؤنا؛ حين سألته عن الراديو الـ “فيلبس” المكسر ورغم ذلك لا يزال يعمل، قال عم محمد: يووووه يا ابو المقدس.. اهه أحسن من بلاش.. أنا زمان كان عندي أحلى رادوي “راديو” في البلد وكان “رادوي” خشب كبير وده أعطاه لي الدكتور ماهر عبد العليم بتاع قلندول، واسترسل يحكي، إنه في مرة من مرات عبور الدكتور ماهر وهو في طريقه من ملوي إلى بلده قلندول، استوقفه وقال له: يا عم الدكتور أنتم بهوات وبتروحوا مصر “يقصد القاهرة“، وتسمعوا الست أم كلثوم عيانا بيانًا “يعني حفلاتها اللايف على المسرح، وإن ما سافرتوش أهه بتسمعوها ع الرداوي “الراديوهات”، ضحك وقتها الدكتور ماهر ابن الأصول، وقال لي: ولا يهمك ياعم محمد، أنا ها أجيب لك راديو الأسبوع الجاي، وبالفعل أهداني الله يكرمه أول راديو في حياتي.. هيييه كانت أيام ودنيا حلوة وناس أحلى.

محمد أبوصالح.. عزاء خاص للزعيم و أم كلثوم! في ذلك الخميس بالذات يكون أبو ماهر في أجمل حالاته، وتستمر النشوة معه حتى يوم الجمعة كله، يظل يتغني بما حفظه من الأغنية الجديدة للست، وأغرب ماكان يفعل، أنه ينبه على زوجته ألا تنطق معه بأي كلمة لأنه- في مذهبه- بعد سماع الست لا يجب أن يسمع صوتاً آخر، أو كما كان يكرر لها دومًا: “والله لو أبويا رجع من تربته مش ها اسمعه ها اسمع الست وبس”!
وكان أغرب مافعله عم محمد أبوصالح؛ إنه حين توفى الزعيم جمال عبد الناصر في 28سبتمبر 1970 سافر إلى القاهرة، وظل هائما في شوارعها مع الجماهير المحتشدة لمدة أربعة أيام، ولما عاد إلى أم تسعة أقام سرادقًا لتقبل العزاء في الزعيم، وهو نفس الأمر الذي كرره حين توفيت أم كلثوم في العام 1974، ظل محمد أبو صالح يبكي وينوح عدة أيام، وكأنه فقد والدته أو والده، وفعل فعلة ظل الجميع يتحاكون بها حتى بعد وفاته هو، حين رص كنبتين خارج البيت وجاء بمقرئ من ملوي وظل يتقبل العزاء في الست أم كلثوم، وقال قولته المشهورة بعلو الصوت وهو يقف أمام فرشته على الكوبري: والله العظيم تلاتة إللي ماجاش وعزاني في الريّس ولا جه يعزيني في كوكب الشرق، مش ها أعزّيه في وفاة أمه أو أبوه”!
وكانت أسعد لحظاته حين أخبره أحد المارين عليه باستمرار أن الراديو بيقى فيه موجة خاصة بكل أغاني الست، واسمها إذاعة أم كلثوم، ولم يتركه إلا حين ضبط له المؤشر على هذه الموجة وعلّم عندها بسن السكين فوق اللوحة الزجاجية أو البلاستيكية الشفافة فوق المؤشر، كي لا يتوه عنها وثبّت الراديو عليها ليصدح ليلاً ونهارًا بصوت الست ثومة!
ـــــــــــــــــــــ
# من “بورتريهات قلندول”.. كتاب لـ: يوسف وهيب.. يصدر قريبًا

اترك تعليقاً

‫شاهد أيضًا‬

امتدادات الزمن النفسي في إبداعات محمد حسن علوان

*   على غير نسق مسبق، وخلافًا لما تعارف عليه المهتمون بالرواية؛ إن متلقين أونقادًا وروائيي…