‫الرئيسية‬ الأخبار فن وثقافة عم منازع ..  وكالة أنباء كوبري أم تسعة!
فن وثقافة - منوعات - 16 نوفمبر، 2020

عم منازع ..  وكالة أنباء كوبري أم تسعة!

يجمع الأخبار من الإذاعات الأجنبية ليلاً ليخبرنا بها صباحًا في عشته  

محطة11

حالة إنسانية فريدة يمثلها كوبري أم تسعة شمال مدينة ملوي بحوالي ستة كيلومترات فوق الترعة الإبراهيمية، فهو الطريق المؤدي إلى قرى الروضة محطة أو”أم تسعة” والروضة بلد وقلندول، ولا تتعجب حين أحدثك عن جماد وأقول أنه حالة إنسانية ثرية، فالمكان دائمًا مسكون بروح الموجودين فيه، وكما يقول أهلنا دائمًا “إن المكان مايبقاش مكان إلا بالناس اللي فيه”، و”قصر من غير ناس ماينداس” أي لا تدخله قدم إنسان لذا فإن هذا المعبر كان سيظل مثل كثير غيره مجرد طريق أو ممر عبور، لولا وجود هؤلاء الذين تلتقيهم صباحًا ومساءً فوقه، وليست مبالغة إن قلت إنه لا طعم ولا روح له بدون هؤلاء الذين عاشوا على جانبيه وصنعوا شخصيته، وعايشوا المارة فوقه سواء مترجلين أو في سياراتهم، أو فوق دوابهم، ومنهم أعمامنا منازع سيد ومحمد صالح وعلي أبو سيد وخليفة العليجي وفتحي العربي وعيد أبوحسونة، وكل منهم ماركة مسجلة في المكان وصاحب شخصية لها خصائصها المتميزة، ونشاطه المختلف بطبيعة الحال عن الآخرين.

بينما يظل أبو فرغل أو عم منازع سيد نسيج وحده، وحالة متفردة بين كل هؤلاء؛ إذ أنه وبحق كان نافذة جيلنا ومن جاءوا قبلنا على الدنيا البسيطة التي كنا نتوهمها أنها كل الدنيا، ولِمَ لا؟! فقد كانت جلساتنا المحببة في عشته التي يبيع فيها الفواكه في نهاية كوبري أم تسعة أمام البربخ أوبدايات الترعة الصغيرة التي تتفرع منها مجراة صغيرة تتجه إلى عزبة مهران، قبل أن تشق طريقها إلى قلندول.
ما أن تبادره بجملة صباح الخير يا عم منازع، يبادرك ضاحكًا وهو يمسك مكنسته القش وهو ينظف أمام عشته بقوله: اصطبحنا واصطبح الملك للمالك! ويردف قائلاً مناكفًا وممازحاً لك: كِمْلوا العواطلية، لسه كان هنا خلاف أبو الحاج صديق وأنور أبو قاسم وعيسي راتب وجمال النمس؛ وقالوا إنهم رايحين ملوي! وبعدهم بربع ساعة عدَّى عليّ سيد فهمي المحضر وهو رايح المحكمة، ولا تملك سوى أن تضحك، وأنت تمد له يدك بسيجارة أو تطلب منه سيجارة، حسب الأحوال، لكنه في كل مرة يرحب بك ويُشعِرُكَ كأنك صديق قديم رغم فارق السن بينكما الذي يتجاوز 40 عامًا، ويبدأ حكيه معك دائمًا، بجملة “شفت اللي حصل؟!” أنت بطبيعة الحال لا تملك ردًا سوى جملة: لا والله ماشفتش أنا لسه قايم من النوم! فينبسط في قعدته على الشلتة الخاصة به، وهو يخطط بعصا صغيرة على أرضية العشة، ويعيد عليك ما فاتك من أخبار ما حدث بالأمس في البلد، منها ما رآه رؤية العين، وكثيرها ما سمعه من آخرين يجالسونه، ثم يعرج إلى إتحافك بما حدث في مصر كلها أو حتى خارج الحدود، مما حصله طوال الليل من إذاعات البيسي بيس (يقصد إذاعة البي بي سي الناطقة بالعربية) ومونت كارلو وصوت أمريكا، حيث كان لا يكتمل كيفه ومزاجه بعد الاستماع لنشرة التاسعة مساءً، إلا بعد الإنصات إلى هذه الإذاعات الثلاث بالتبادل طيلة فترة المساء وحتى يحين موعد نومه، وحين تسأله: ياعم منازع  طالما استمعت لنشرة التاسعة في الراديو المصري أو التليفزيون فيما بعد، ايه اللي يخليك تسهر قصاد الإذاعات التانية؟! يضحك عم منازع  وينظر إليك نظرة ذات مغزى، ولا تفهم (ستفهم فيما بعد أن ترجمة هذه الضحكة مع النظرة الغريبة لن يخرج عن جملة ” والله انت لسه صغِير ومش ها تدرك الفرق إلا بعدين”) وسيان صمت عم منازع أو تكلم، فقد وصلتك الرسالة، لكنه كان يحلو له في مرات نادرة أن يجيبك شارحًا: وهو أنا يعني يا ابو الخواجة غاوي أهلِك في حجارة الراديو ع الفاضي؟! ده طه أبو الحاج عبد النعيم أعطاني الحجرين الطورشي بـ 14 قرش، هي دي بقت حالة؟! ولا بأس أن يروي لك كيف أنه كان يشتري الحجرين بقرشين صاغ! وبعد أن يتمطى مطقطقًا ظهره، يضيف؛ في الراديو بتاعنا انا باسمع أخبار الرئيس والحكومة، أما في مونت كارلو والبيسي بيس بتاع الانجليز والأمريكان، باسمع لكل الأخبار، واللي مش بنسمع عنه في بلدنا، علشان كده يا ابو المقدس بافتح الراديو على الإذاعات دي، والأهم إنه فيه ناس بتفهم بيجيبوها تشرح وتفسر علشان اللي زيي يعرف ويفهم اللي حصل في الدنيا.
وإذا تصادف وتغيب أبو فرغل عن عشته لأي سبب من الأسباب، لا نهدأ إلا بعد أن نطمئن عليه، وفي إحدى المرات، بينما رأي صديقنا سيد محمد عيسى الوجوم على وجوهنا في المغربية، ونحن أمام عشة منازع، قال: أنا شفته الصبح وقال إنه مسافر مصر عند ناس معارفه، علشان يزور الحسين والسيدة، واسترسل سيد يحكي، أول ما شافني قال لي: خير يا ابو العمدة وضحك، وحين سألته عن الجرنال قال لي كلمته المشهورة: أنا عااااارف “ونطقها سيد بصوت منازع المميز” تعال أقولك على كل شيء يا ابو عيسى، وبدأ يحكي: شفت الرئيس لينتون “يقصد كلينتون”عمل ايه؟! لا ماشفتش، هو يا سيدي والكومبلس الأمريكي “الكونجرس” اجتمعوا امبارح بالليل واحنا نايمين ومعاهم باريز بتاع اسرائين “شمعون بيريز رئيس وزراء إسرائيل” وهايجيبوا أبو عرفات ويمضوه على ورق، علشان ياخد ربع اللي كان هايجيبه السادات وهمه مارضيوش وطلعوه خاين!

يوم الثلاثاء، كان أحلى أيامنا مع عمنا منازع، منذ الصباح الباكر نجتمع في عشته، لنراقب ونتفرج على بنات البلد وهن ذاهبات إلى سوق التلات بالروضة بلد، وما أن يرانا قادمين إليه بـ “شِلّة المعلم” كما كان يصفنا، يقول: يا صبّاح ياعليم يا فتّاح يا كريم! ويضحك ثم يجري إلى إحداهن يعرفها جيدًا، ويقول دائمًا: أنها شاطرة في نقاوة الأشياء وكمان بتتشاطر على البياعين، ومش لُكعية بترجع بدري من السوق، يكلفها أن تحضر له معها من السوق عشرة أرغفة بعشرة قروش وبـ ريال ” أي عشرون قرشًا” ملوحة أو فسيخ مصنوع من صغار السمك، وبقرشين بصل أخضر، ولا ينسى أن يقول لها: ومن بتاع البصل تشحتي لنا ليمونتين تلاتة! وما هي إلا ساعتين وتعود السيدة ومعها أكلتنا المفضلة كل ثلاثاء، وبعد أن ننتهي من أطعم أكلة، نغسل أيدينا في البربخ بصابونة أحضرها خصيصًا لنا، وكل منا يدفع نصيبه، والشاي كان دائمًا على صاحب المخل كما كنا نمازحه دومًا، وهو يتقبل بصدر رحب، ونادرًا ما كانت علبة السكر فارغة، حينها فقط كان يقول: يللا بقى واحد منكم يتبرع ويجيب لنا ربع كيلو سكر، وبمداعبة لا نجد أمامنا سوى صاحبنا خلاف فوالده الحاج صديق عنده دكان بقالة، اعتدنا على ذلك لسنوات، حتى بعد أن تخرج معظمنا وأنهى دراسته، والتحق من التحق بوظيفة حكومية، ومنا من سافر إلى القاهرة، لكن ظلت عشة منازع هي ملتقانا كلما تجمعنا، وكلما سأل أحدنا عن الآخرين في بيوتهم ولا يجدهم، حتمًا سيجد الجواب الكاشف عند عم منازع.

غير أن من لم تكن له دراية بشخصية “أبو فرغلي” وميله إلى المزاح كثيرًا رغم أنه ينطق الكلام جادًّا، يساعده على ذلك وجه الوقور وشيبته، كان بلا شك يتورط في مصيبة لا محال، يحلو لعم منازع مشاكسة أصحابه من رجال القرية الذين يعملون بمدينة ملوي أو القرى المحيطة، فيتفنن في صنع المقالب بينهم وبين زوجاتهم، وكاد في مرات عديدة أن يتسبب في كوارث بين كثيرين، دونما يقصد ذلك بالطبع، مثل تلك السيدة التي جاءته تسأل عن زوجها: هو أنت ماشفتش أبو فلان النهارده ياعم منازع؟! يصمت ابو فرغلي ويمثل دور الحزين فيتهدج صوته، ويقول لها: احتمال راح ملوي، ويصمت قليلاً، ثم يقول متنهدًا: مش عايز اخبي عليك، هي فيه واحدة ومعاها عيلين جات لي من ساعة وقالت: “إنها من ملوي وان فلان أبو فلان بقى له شهر ما بيشوفش العيال وواحد منهم عيان اهه ومافاتليش مصاريف، ياريت لو شفته تبلغه” تسمع السيدة الغشيمة كلامه وتنهار في البكاء، وترجع بسرعة إلى بيتها، وتظل في انتظار زوجها، وحين يعود يسمع منها ما لذ وطاب، وإحداهما ذات مرة أصرت على الطلاق، ولم تهدأ حتى جاء لها بـ “أبو فرغلي” وحلف لها على المصحف والختمة الشريفة أنه كان بيهرّج معاها” ويختم كلامه مازحًا: يابنت الناس الطيبين زي ما بيقولوا: لوكان فيه خير كان لاف عليه الطير” وخير الخزانة بيبان على الضبّ (أي لو منه رجا كان يبان عليه) ويضيف ضاحكًا: ما انت شايفاه بيجر في نصه وبيقول ياريح اسنديني!

اترك تعليقاً

‫شاهد أيضًا‬

امتدادات الزمن النفسي في إبداعات محمد حسن علوان

*   على غير نسق مسبق، وخلافًا لما تعارف عليه المهتمون بالرواية؛ إن متلقين أونقادًا وروائيي…