‫الرئيسية‬ الأخبار فن وثقافة ريش عمر الزهيري-ليس سينما!
فن وثقافة - 24 أكتوبر، 2021

ريش عمر الزهيري-ليس سينما!

.. ريش عمر الزهيري..قد يصدمك العنوان، أو فلتُصدم إن شئت، كما صُدم قبلك كثيرون ممن ينتمون إلى المهنة ذاتها “مهنة التمثيل” ولهؤلاء- بالطبع- مبررات قد نقبلها أونرفضها، لو أعلنوها صراحة، ولصدمتك أنت كمتفرج مثلي أيضا الكثير من الأعذار والمبررات.
ريش الزهيري برأيي الذي لا أُلزِمُ به أحدًا ولا أجرؤ، هو ليس سينما بالمعنى الذي اعتدناه، أو ما درجنا على تلقيه أونتوقعه، فلا أدواته هي تلك الأدوات، ولا نهجه يماثل أفلامًا سبقته عبر تاريخ السينما المصرية التي تشكل وعينا عليها، خاصةً تلك التي تناولت الفقر كمشكلة وتلوّن الذات الإنسانية بكل هذه التناقضات التي قد لا نستوعبها؛ والحقيقة أن الواحد منا لا يستوعب تناقضاته هو في ذاته.
..هذا من حيث المشاهدة الأولى للفيلم، أقول الأولى؛ لأن “ريش” من نوعية الأفلام التي تقترب من التشكيل، فاللوحة التشكيلية لا تمنحك كل مافيها من النظرة الأولى، بل عبر قراءتها مرة أواثنتين أو حتى ثلاث، وربما أكثر، وفي كل مرة تكتشف حالاً جديدة ورؤى أكثر. الفرجة ليست تسلية أوتلقٍ سهل تريحك به الألوان والإبهارات وما إلى ذلك، الفرجة قراءة، والقراءة هنا ليست من جانبي كـ “متفرج” بل لتدع المَشاهدَ والفيلم ككل يقرأ جوانيتك، اعتبر رأسك حجرًا والفيلم حجرًا آخر، واستمتع بتلك الشرارة التي ينتجها حكّ أو خبطة الحجرين ببعضهما.
.. فيلم “ريش” لعمر الزهيري، يمنحك فرصة اختبار رأسك لمشاهدة ما هو كامن خلف الصورة سواء كانت تلك الصورة مبهرة أومنفرة أو حتى مقززة كما قال البعض. رغم أن القذارة والتقزز ليسا بهذا الفهم السطحي الذي تعبر عنه بقولك “يييييع” ولا تفعل شيئًا مثلما ترى كثيرين يفعلون ذلك كل يوم وهم ينظرون إلى قذارة الكثير من الشوارع والأمكنة ثم يقولون أويضمرون هذه الـ “ييييييع” ويمرون مرّ الكرام ولا أحد يفعل شيئًا، حقهم أن يقولون ويعبرون، ويكررون أن هذه ليست مهمتهم بل مهمة الحكومة وعمال النظافة، ولا يكلف أحد نفسه بالتنظيف أمام محله أوبيته، بل يستمتع بإزاحة هذه الـ “يييع” إلى عرض الشارع متوهمًا أنه ينظف!

المخرج عمر الزهيري
  .. خطيئة “ريش” الزهيري؛ بل خطاياه المتعددة، أنه- مبدئيًّا- خلخل هذه البرمجة المستقرة التي نحن عليها في الاستقبال والتلقي، وهذا ليس بقليل، فالصدمة قاسية على من استقرت مفاهيمهم على تعريفات قديمة بالية لفن السينما، أو لرسالة الفن بكل روافده عمومًا، قد تشبه كثيرًا مافعلته قصائد صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي في خمسينيات القرن الماضي من خلخلة الراسخ لدى العقاد وغيره، وكذا ما فعله شعراء قصيدة النثر بأحمد عبدالمعطي حجازي ذاته!
.. هذا بالنسبة لبعض الممثلين أوالمشتغلين بالحقل السينيمائي، هل هو إذن صراع سلطة الوجود؟ الإجابة لديّ أجدها من خلال فيلم ريش ذاته وأدواته والمشاركين فيه؛ إذ أن أكبر خطايا الشاب الذي لم يتجاوز 33 عامًا “عمر الزهيري- مخرج الفيلم والمشارك في كتابته مع أحمد عامر” هي رسالته لكل هؤلاء أنه يقول وداعًا لكل من يمارس نجوميته، أوهكذا يتوهمون، أو يسلط سيف مساومته في أجره على رقاب المنتج والمخرج وزملائه المشاركين معه في العمل، وأيضًا بالتالي على رقاب الجمهور المشاهدين الذين سيدفعون ثمن التذكرة!
.. وكأن العمل الفني وحسب رؤية مخرجه- وهو الصانع لكل شيء فيه- يرسل برسالة أساسية: أن العمل لن يتوقف على نجم يبالغ في أجره بما يزيد على ميزانية الفيلم ذاته التي لم تتجاوز حسب تصريحات الزهيري 6 ملايين جنيه (أحد الممثلين في أفلام ومسلسلات أوهكذا يحسبونها، تجاوز أجره 40 مليون جنيه!) أي ما يكفي لإنتاج 7 أفلام جيدة بكل ممثليها.
.. ربما هذا يقودنا إلى فكرة الفيلم وهي طرح وتشريح فكرة الفقر لا بظواهرها فقط، بل بما يفعله داخل النفوس، إن آثاره وأفاعيلة “أي الفقر” تتجاوز إلى حد يفوق الخيال ماهو قذارة وتقزز و”يييييع- ياااي” انظر إلى هذا اللاشيء المتمثل في خلفيات المشاهد، المباني والمنشآت هي مبان وليست مباني أيضًا، هذا فضاء وبراح ولكنه ليس براحًا ولا فضاء، بل التشوهات الداخلية نضحت على كل شيء وفي كل شيء حتى الجدران. هذا إن ارتكننا إلى أن الفيلم يطرح هذه الحال فقط، لأعيدك إلى مشهد البداية أو ماقبل تترات الفيلم، مشهد احتراق أحد الأشخاص وفي خلفيته أحد المصانع. قد لاتكون له علاقة بما يليه من مشاهد الفيلم، وقد يكون مرتبطًابها ارتباطًا وثيقًا ومكملاً ومبرزًا لها رغم انفصاله في الترتيب عنها، لتمنح رأسك فرصة التدريب على التأويل المنتج لا التأويل المفرط بلا جدوى، لمَ لا يكون مشهد كهذا تعبير عن تدمير الحضارة الصناعية للإنسان العامل خصوصًا، سواء بما فعلته من تهميشه وتسليعه، أواستبداله بآلة أومجرد روبوت؟! بعد أن اعتمد عليها في أكل عيشه وحياة من يعولهم، ولم لا تكون صورة كهذه إفرازًا لما فعلته أيضًا الحضارة الصناعية بالإنسان عمومًا بعد أن اعتمد عليها وأهمل تفكيره وعمله اليدوي والجسدي، فالآلة الحاسبة حلت محل إعمال عقلك في الجمع والطرح والقسمة، ولم لا يكون مشهد كهذا يبلور كل ذلك؟! لم نستحسن دومًا صور الغربيين وهم يتمشون من بيوتهم إلى مقار أعمالهم طالما كانت قريبة؟! أو نصفق لهم وهم يركبون دراجاتٍ بدلاً عن سياراتهم الفارهة؟!
.. لعمر الزهيري إذن ولغيره، أن يستخدم الأدوات التي تخدم مايريد إيصاله، أو التأشير عليه أونبش الحالة من داخلها، وبالتالي نبش أدمغتنا، أليست واقعية الواقعية أنني فرضا لو أتيت بممثل أوروبي أبيض (ولا أحدد اللون هنا كعنصرية لا أقبلها، بل للتوضيح فقط) ليقوم بدور رجل من قلب أفريقيا، ومهما أجاد الماكيير في صبغه باللون الأسود والشعر الأكرد، فإنه روحيًا لن يكون مقنعًا مثلما لو جئت برجل من أفريقيا ذاتها، التعبيرات والايماءات المقصود منها وغير المقصود، الأمر مختلف تمامًا من حقيقة الشيء إلى تسطيحه أوطرحه بشكل كاريكاتوري لا يحمل أي معنى. لذا فمن الطبيعي وليس هنا أي سيريالية أوتجريد؛ أن يكون من يؤدون دور المواطنين الفقراء هم مواطنون عاديون وليسوا محترفين يمثلون أنهم فقراء، الإنسان العادي الذي شكَّل الفقر ملامحه “وأقصد الفقر هنا الذي لم يعشه أبداً أي من الممثلين النجوم مهما كانت درجة مستوى معيشتهم قبل النجومية مثلاً” أنت تمامًا لو فعلت هذا كأنك تريد أن تقنع الآخرين بأن هذا الكيس أوالبرطمان المملوء ملحًا فيه سكر، لا لشيء إلا أنك كتبت على الكيس كلمة “سكر”!
.. الشخصيات وكل عناصر أي فيلم كانت بشرية أو مادية، هي أدوات ينفذ أو يشكّل بها المخرج رؤيته، إن حضور الشخصية الأبرز في الفيلم والتي أدت دورها المواطنة “دميانة نصّار” جاءت بلا اسم، طوال الفيلم، كأنها مجرد أداة في الحياة قطعة أثاث، شيئٌ ما، سمها ما شئت، أليس هذا ما آل إليه إنسان العصر الحديث، ضحية التقنيات وصانعيها، بل والأحرى المتحكمين فيها، فالزوج الذي هو أداة في يد رئيسه لدرجة قبوله جملة منه وجهها رئيسه لطفله وهو يمنحه نقودًا هدية عيد ميلاده: ماتبقاش رمة زي أبوك” وفي أيدي الحياة كلها، بل ومابرز أمامنا أنه- أي الزوج- وبإرادته سلم نفسه كأداة في يد الحاوي، ربما مبرره أنه أراد أن يسعد أبناءه يوم عيد ميلاد أحدهم. أما عن قلة أو ندرة ما نطقت به الزوجة طوال الفيلم، هو أمر يتجاوز كونها أنثى أوزوجة، بل هي أداة مثلها مثل باقي الشخصيات- سواء كانوا إناثًا أوذكورًا- في يد الحياة وعقل المخرج.
.. لن أحدثك عن حالة الميلودراما في وفاء الزوجة ورعايتها لزوجها المتحكم المسيطر البغيض، حتى إذا صار بلا نفع كـ دجاجة ترقد على السرير، رغم أنه قبل تحوله يمارس سلطة الزوج/الذكر ضدها وهي مطيعة في صمت خانق، مستكينة راضخة لهذا الجبروت.. انظر إليه وهو يشرب هو كوب الحليب الكبير بينما الاطفال لا يشربون شيئًا، يعطي لها القليل من النقود: النهاردة وبكره بدنجان؛ في المقابل وفي اللحظة ذاتها نراه يأكل طبقا مختلفا لا يتذوقه أولاده ربما رأته الزوجة كما يفصح صمتها أنه أيضًا ضحية مثلها أوأداة من أدوات حولها يديرها بشر آخرون متحكمون؟! ربما.
.. ولن أحدثك عن التطويل بعض الشيء الذي ربما قد يزعج كثيرين، رغم أنه قد يمنح انسيابية ما واتساعا ما، للتخفيف من حدة ووقع بقية المفردات السينمائية في الفيلم
.. الأداتية كذلك تتبدى في حالة البذخ التي انتابت الزوج قبل تحوله لدرجة أنه اشترى نافورة صغيرة في بيت ليس به من الأثاث سوى سريرين قديمين عليهما آثار الزمن وبعض القطع الأخرى الصدئة كدولابه ودولاب الطعام أوالنملية، نافورة بلاستيكية صغيرة، ويحلو له- موجها كلامه للزوجة- أولرئيسه في العمل، تكرار عبارة “ندوس هنا تشتغل.. ندوس كده تبطل.. بتدي شكل جميل.. وفي نفس الوقت شيك”.. كأننا أمام أدوات تستبدل ذاتها ووقتها وزمنها بأدوات أخرى حتى لو كانت بلا أي جدوى او احتياج!
أيضًا، رئيس الزوج في العمل أوصديقه الذي ينفق على البيت بعد الاختفاء العبثي للزوج، ولهدف ما لا يبين سوى في الأخير، حين يصارح الزوجة بما يعتمل داخله، إنه مجرد أداة لرغبة ما. تهرب منه وتتركه.
..ونظرًا للغط عارم أثير حول مهرجان الجونة وفساتينه. وثالثة الأثافي التي تشنج أمامها البعض وهي “لماذا يحصد فيلم “ريش” جائزة المهرجان الأولى، بعد أن سبق وفاز بجائزة النقاد بمهرجان كان الفرنسي العالمي، وكذلك بمهرجان بالصين. لا بد من قراءة ما كتبه الرجل محل اتهامات وادعاءات البعض، وهو المهندس نجيب ساويرس وعائلته منظمي المهرجان ورعاته، كتب ساويرس على تويتر يقول: “شاهدت الفيلم من الساعة الواحدة و النصف صباحا حتي الرابعة صباحا . الفيلم به نواحي مميزة من ناحية قصةً كفاح ام في عائلة فقيرة وأب بائس وتمثيل عميق للأم التي لا تتكلم كثيرًا لكن تكافح من أجل الأسرة في مجتمع صعب.
ويضيف ساويرس موضحًا: صدمتني النهاية بعد عثورها علي زوجها و لا أرى ان الفيلم يسئ الي مصر إطلاقاً، بالعكس؛ لابد أن نتذكر فقراءنا، لكي نعمل سويًا؛ حكومة وشعبًا للقضاء على الفقر.
وحول حصول الفيلم على جائزة أحسن فيلم روائي طويل بمهرجان الجونة، قال ساويرس: هل يستحق الجائزة أم لا؟! لأنه أيضا بطيء، وأترك الحكم للنقاد و الجمهور. لأنه فكرني بفيلم “باراسايت الكوري” الذى حاز جائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان الفرنسية.”
بالأخير؛ بين الأداتية وتشيؤ الإنسان، هنا، تتشكل الرؤية والرؤى، فالفن ينزع دومًا لا الى التجسيد ونقل الواقع بما هو عليه، بل الى التجريد كثيرا أوقليلاً، بعدسة مكبرة كي يشعر كل منا بما في داخله من كركبة وقبح وما إلى ذلك، وينتبه، قد نصدم في البدء لكن كنتيجة تالية سننتبه ونحاول تغيير ما بنا.
ومن يتجول في القرى والنجوع مصر سيجد ما هو أشد بؤسًا من ذلك. ولا نذهب بعيدًا، انظر الى حال الطبقة التي كانت متوسطة، ولعلي أنا وأنت وكثيرون كنا منها، لا تسترنا سوى بضع ملابس اشتريناها منذ سنوات ولا يستر فراشنا وأثاثاتنا سوى تكفينها ببياضات كي تداري ما تهتك وانتهت صلاحيته منها.. صرنا مناظر لا أكثر ولا أقل، هذا على مستوى الشكل والظاهر، أما الجوهر؛ فحدث ولا حرج عن ازدواجيتنا، وخراب أنفسنا؛ بل صار الواحد منا يحمل بدلاً عن القناع عدة أقنعة.
فلا تظلموا مخرجًا شابًا كعمر الزهيري، كل جريمته أنه قدم رؤى مغايرة لما رضعناه وتربينا عليه قسرًا، أو لأنه أزاح سلطة وسخافة تسلط النجم الممثل على رقاب المنتجين والمخرجين وبالتالي من فوق رقابنا نحن المشاهدين.

 

 

اترك تعليقاً

‫شاهد أيضًا‬

ماتريوشكا قارورة المحيميد

.. “هكذا علمتني أمي منذ الطفولة؛ أن أحترس من الغرباء، أن أنكفئ إلى داخلي، أن أختزن ع…