‫الرئيسية‬ الصحة والجمال أسرة ومجتمع رشدي يني.. أولادي زرعة عمري
أسرة ومجتمع - منوعات - 25 نوفمبر، 2020

رشدي يني.. أولادي زرعة عمري

هو وزوجته ليلى وهيب رمزان للعطاء والصبر وحرمان الذات لأجل الأبناء

ورشدي

   قبل أن يصيح الديك معلنًا قدوم الفجر، تجده مستيقظًا، وطيلة النهار حتى غروب الشمس؛ نادرًا ما كنت تجده في البيت، شأنه شأن فلاحين زمان ممن يمتلكون بضع قراريط يزرعونها ليعتاشوا منها هم وعائلاتهم، يومان فقط للفرح في حياة هؤلاء؛ هما: يوم الزرع أي بذر البذور وريها، ويوم الحصاد، وطوال أيام السنة لا يتوقف عن مواصلة الكد والتعب، في فرح خفي كلما استطاع تحقيق إلا أن فرحته التي تغبط روحه لا تتحقق إلا حين يمر على مازرع، وينشرح صدره وهو يتابع النبتة تنمو وتزهر ثم تثمر..
منذ أكثر ما يزيد على الـ51 عامًا، وأنا أرى عمنا رشدي يني أو “أبوشنودة” على هذه الحالة، أول مشاويره، يذهب فجرًا- والأمر سواءٌ عنده وغيره من الفلاحين القدامى، لا يفرق معه إن كان الطقس حارًا أو صقيعًا- إلى أي حقل يجني أو يقلع أصحابه محصول قصب السكر، ويقلم القصب وتحميل حماره بشحنة “القالوح” أو زعازيع القصب لتأكلها المواشي، ثم يذهب إلى حقله وزرعته التي يمتلكها في “حوض السوينية” أو الأخرى في “حوض الأربعين” التي يزرعها بالإيجار، وما بين الاثنتين مسافة لا تقل عن خمسة كيلومترات، يفعل هذا يوميًّا دون كلل أوملل. وطوال سنوات، وخاصة في فصل الصيف وتحديدًا بعد الظهر، ينطلق أبوشنودة ومعه زملاؤه من المقرقرين إلى الجُرن.

الأستاذ إيليا رشدي
والقرقرة هي مهنة من المهن التي قضت عليها الميكنة الزراعية، وهي من مراحل الفرز المهمة لحبات القمح عن أعواد القش، وكانت مهمة المقرقر هي تذرية محصول القمح أوالفول أوالشعير الذي تم درسه بـ”النورج” ليفصل الحبوب عن التبن الذي لا يهدره الفلاحون بل يستخدمونه علفًا لبهائمهم طوال فترة الدميرة، وهي فترة من الصيف ينعدم فيها البرسيم والحشائش الخضراء، والنورج لمن لم يره، هو آلة الدرس الوحيدة آنذاك قبل وجود الدَّرّاسات الميكانيكية، وهو عبارة عن دكة خشبية تراثية أسفلها عجلات كل عجلة عبارة عن اسطوانة من الحديد الصلب المسنون، وعلى الدكة يجلس رجل يقود البقرة التي تجر النورج كي لا تخرج به عن الدائرة التي تم صفّ أعواد القمح بسنابله فيها، حتى يتم طحن الأعواد والسبلات، ويتم تجميعه في كومة، وهنا يأتي دور “المقرقر” لكي يقوم بتذريتها بالمدراة ذات اليد الطويلة التي تتجاوز متر ونصف، وتنتهي بما يشبه كفة اليد وتحتوي على عدة أصابع وكلها مصنوعة من الخشب، وبعد تلك المهمة الشاقة في عز الحرّ، يتناول الواحد منهم غربالاً ويقوم بهز الحبوب لينقيها من الشوائب وحصوات الطين، وظل من امتهنوا هذه المهنة حتى نهاية الثمانينيات لا يتلقون أجرهم نقودًا عن هذه المهمة، بل لهم حسب المتعارف عليه “رُبع أوكيلة” على ما أتذكر عن كل إردب من المحصول، والإردب من وحدات المكاييل القديمة وبه “12 كيلة أو 24 رُبْعًا” وإردب القمح يساوي 150 كيلوجرامًا، وعليه فإن الكيلة تساوي 12,50 كيلو جرامًا، والرُّبْع يساوي 6,25 كيلوجرام.

العم رشدي يني مع ابنيه المهندسين شنودة رشدي وزوجته وزاهر رشدي 
ومن حياته ومهنتيه الأوليين “الفلاحة والقرقرة” أي الزرع وفرز النافع وفصله عن الضار أو ما ليس له فائدة، تعلم أبو شنودة الكثير، ورغم اختبار الله له ولزوجته السيدة ليلى وهيب، أن يظل طوال ثمانية عشر عامًا بلا نسل، إلا أنه تحمل راضيًا لم يتكدر ولم يغضب زوجته أبدًا، وكان يقول دائمًا: لو ربنا أراد ها يكون لينا نصيب، وربنا وعده لا يخيب أبدًا”. وبالفعل بعد هذه السنوات الطوال أنجب عمنا رشدي يني أول أبنائه وأسماه “شنودة” تيمنًا باسم القديس الأنبا شنودة الثالث، وبعده رزق بالابن الثاني وأسماه حسب الكتاب المقدس “إيليا” ثم جاء الثالث وحسن الختام وأسماه”زاهر”.، وكما فعل في الفلاحة فعل هكذا مع أبنائه الثلاثة، وكان يسميهم ولايزال “دول زرعة عمري وعطية الله لي ولأم شنودة”، وكان كلما نمت هذه الزرعة يحمد الله كثيرًا ولا يساعه فرح الدنيا كلها، وبرضا بالغ وسعادة ربما يحسده الكثيرون عليها، كان يتلذذ بحرمان نفسه من كل متاع الحياة، ويواصل الكد والتعب لكي يعيش أبناؤه في ارتياح، بما يليق برعاية عطية الله له، ضحى بكل غالٍ ونفيس ليدخل اثنين منهم كلية الهندسة، رغم أنه كان يتكبد الكثير ويحتمل الكثير في سبيل رعاية هذه الزرعة الإنسانية، إلا أن الابتسامة لم تغادر وجهه، وكانت فرحته الكبيرة يوم حصول أول أبنائه “المهندس شنودة رشدي” على بكالوريوس الهندسة، وتعيينه معيدًا بذات الكلية، وتكررت الفرحة بزفافه، ثم تلتها فرحة تخرج أصغر الأبناء وهو “المهندس زاهر رشدي” الذي قضى خمس سنوات بالهيئة الهندسية للقوات المسلحة كضابط مهندس، أما الابن الأوسط وهو “إيليا رشدي” فإنه ورث عن والده ووالدته البساطة والفرح بأقل القليل رغم محبته للكد والتعب أيضًا، لذلك حباه الله بمحبة الجميع، ووفقه الله في الزواج.

المهندس شنودة رشدي وزوجته

   وأنت تنصت للعم رشدي يني وزوجته ليلى وهيب، وهما يتحدثان مفتخرين بأولادهما، ستدرك تمامًا، وربما لأول مرة، أنك أمام اثنين من البشر قلما يتكرر مثيلهما في الصبر والكفاح، وأنه مهما تعطلت أو تأخرت عطايا الله لك، فإنها ستجيء في موعدها وربما بأكثر مما تمنيت أو حَلُمْت، إنهما نموذجان للصبر والعطاء رغم ما مر بهما.

إيليا رشدي وزوجته وابنته الجميلة

اترك تعليقاً

‫شاهد أيضًا‬

فهد العتيق قاطع طريق روائي

.. “قاطع طريق مفقود”.. ما أن تقع عيناك على هذه الجملة فوق غلاف رواية فهد العتي…