‫الرئيسية‬ الأخبار أخبار الشرق الأوسط القس ناجي فرنسيس.. الراعي الأديب

القس ناجي فرنسيس.. الراعي الأديب

من أقواله: آلاف العظات والنصائح بلا محبة فاعلة لا تعني شيئًا!

ناجي

ربما لولا رغبة والده المقدس فرنسيس وإصراره على أن يرى ابنه قسًّا وراعيًا لأبناء الطائفة الإنجيلية وأهل بلده قلندول في الكنيسة التي بناها قريبه لأمه المقدس زاخر خليل على أرضه، لصار الشاب ناجي فرنسيس في عِدَاد المفكرين والكُتّاب، وربما كان له شأنٌ آخر بين القادة الاجتماعيين.

في السبعينيات من القرن المنقضي؛ ربما لم يكن سوى الكبار الذين يعرفونه، ويطمئنون عليه من والده المقدس فرنسيس، أو فيما بعد وفاته كانوا يسألون والدته المقدسة أم إسحق عن أخباره حيث كان هو أن الابن الوحيد الذي تبقى للمقدس فرنسيس، بعد وفاة ابنه الأكبر المرحوم إسحق،   وكثيرون لا يعرفون أن الشاب ناجي -أنذاك- الغائب دومًا عن البلد يعمل قسيسًا في محافظة أسيوط، وقضى أكثر من خمسة وعشرين عامًا في قرية بني عديات بأسيوط، ولكن قبل نهاية السبعينيات وبالتحديد في العام 1976 عرفه الجميع، بعد عودته ورعايته للكنيسة الإنجيلية بقلندول واستمر بها لمدة ثلاثين عامًا حتى تنيح بسلام وانتقل إلى الأمجاد السمائية.

ومنذ اللحظات الأولى التي تولى فيها الرعاية بقلندول، بدت بوادر النزعة الإجتماعية الإنسانية لديه، وبالإضافة للعظات كل أحد والدروس ومدارس الأحد للصغار، وصلاة العشية كل ليلة، لم يكن يتوقف عن تفقد أهالي البلدة وزيارات خاصة للفقراء والذين لا يذكرهم أحد، لا بغرض التبشير فقط، بل للرعاية وقضاء مصالحهم المتعثرة، وينهي جلسته في أي بيت بالصلاة دومًا.

ويشارك كل أهالي البلد أفراحهم وأتراحهم مهما كانت انتماءاتهم الدينية، إذ كان يرى أن الراعي الحقيقي هو من يبذل نفسه من أجل الكل.

وتأكيدًا لجانب الراعي الاجتماعي قبل الديني في شخصية القس ناجي فرنسيس، وتعميقًا لهذا الاتجاه الإنساني، بذل أقصى مافي جهده وعلاقات المحبة والتقدير التي كانت تربطه بالكثيرين من المسئولين المحليين ومسئولي الهيئة القبطية الإنجيلية للخدمات الاجتماعية، نجح في استقدامها لتقيم أكثر من عامين في قلندول، تعيد الأمل لمن حرموا من المدارس وتمحو أميتهم بتعليمهم القراءة والكتابة، وكذلك مساندة الفقراء اجتماعيًا وإنسانيًا عبر المعونات الغذائية، بالإضافة وهذا من الأهمية بمكان، وفرت الرعاية الصحية لكثيرين، وأنشأت ورش عمل لتعليم السيدات الخياطة والتطريز وغيرها. وكل هذه الانشطة المثمرة كانت أبوابها مفتوحة لجميع أبناء وسيدات القرية دون تصنيف ديني أو طائفي.

ولأن معظم أهل القرية استقر في أذهانهم مشهد القس أوالقمص الأرثوذكسي الذي اعتادوا رؤيته بزيه المميز الظاهر لهم ويتكون من الفرّاجيّة والقلنسوة السوداوين، لذلك لم يكن غريبًا أن ينادي بعضهم القس ناجي أو الذين سبقوه من قساوسة؛ بلقب “أستاذ فلان”، الغريب بالنسبة لمثلي وقتها كنا نتعجب أنه كان يرد بمحبة وأبوة حقيقية؛ ولم يكن يغضبه ذلك ولا يرى فيها خطأ ولا غضاضة، وفي إحدى الجلسات معه بجوار برج الحمام الذي يشغل ركنا كبيرًا من أركان بيته الفسيح بقلندول؛ شاكسته مرة بالسؤال عن سر عدم غضبه ممن لا ينادونه بكلمة أبونا أو جناب القسيس مثلا؟! ضحك طويلاً؛ وأجاب أليست كلمة أستاذ أعلى في الرتب العلمية والدنيوية؟! واسترسل يشرح؛ إنها في الأصل كلمة “أُسطى” الفارسية وتعني من يجيد مهنته أوعمله بمهارة فائقة و”يتودك” فيه جدًا حتى يصير له تلاميذ يتعلمون عنه تلك الصنعة أوالمهنة، ولتعلم ياعزيزي أن كلمة أستاذ أعلى علميًّا من لقب دكتور في السلك الجامعي، كمثال، فهو الذي يحضّر عدة أبحاث بعد الدكتوراة لينال درجة الأستاذية في تخصصه، ثم وهذا هو الأهم ألم يكن التلاميذ والجموع ينادون يسوع: “يامعلم”؟! إذن فكل الألقاب تليق بمن يرعى ويعلم ومثلي تكفيه كلمة أخ وهي رتبة روحية كبيرة لو تعلم، أن تشعر من حولك بأخوة حقيقية فيقولونها بقلوبهم قبل ألسنتهم.
والقس ناجي فرنسيس، كان مدركًا حقيقيًا لجملة أتقول: “لكل مقام مقال” فها هو فلاحٌ “قراريٌّ” مع الفلاحين في لغتهم وهمومهم ومشاكلهم، فيحكي عن مواعيد الزرع ومواعيد الحصاد أنسب الأيام لبذر البذور للنباتات المختلفة تبعًا للشهور المصرية القديمة كأجداده المزارعين، وهو مع المتعلمين يخاطبهم بلغتهم، فكان ينادى من هم في عمر أولاده بلقب الاستاذ فلان حتى لو كان لا يزال في مرحلة التعليم الثانوي او الجامعي، وكان أغرب ماعايشته وقتها؛ تلك الحوارات العميقة التي كانت تدور في جلسات مختلفة بينه وبين الشيخ محمد فريد؛ إذ كان يتكلم بفصحى قلما تسمعها من مختصين باللغة، ويدلل على ما يقول بأبيات من شعر المتنبي وحافظ وأحمد شوقي، وغيرهم.

وقد لا يعرف كثيرون أن القس ناجي فرنسيس كان قارئًا جيدًا للأدب، وخاصة المترجم منه، وكان- وهذا هو المهم- كاتب قصة متميز في سياقاته الخدمية اجتماعيًا وروحيًا، وكثيرًا ما قرأ أبناء جيلنا ومن سبقونا قصصه منشورة في مجلات تصدرها الطائفة الإنجيلية مثل “أجنحة النسور”، و”رسالة النور” وغيرها.

ولعل هذا ما جذبني إلى الارتباط به في مقتبل العمر، إضافة لقرابته لأمي، غير أن تلك القرابة لم تكن هي الشافع الوحيد لي في ذلك، سوى أسئلتي المتكررة له، متمنيًا توضيح أشياء كثيرة في معظم المجالات الحياتية وليس الدينية فقط، ورغم صغر سن تلميذ بالثانوي مثلي إلا أنه ما من مرة طرقت بابه، إلا وفتح لي مرحبًا وكان يحلو له أن يناديني بالمشاكس الجميل، والعجيب أنه كان يطلب مني كل ما أكتبه ليقرأه ويبدى رأيه الذي قادني كثيرًا إلى التأمل أكثر من الحفظ أو ترديد المصكوكات، ولا أنسى ماحييت أنه حين رأني ذات مرة أخفي بعض الأوراق، وأقدم له غيرها، وكأنه قرأ أسباب خجلي؛ فاجأني بقوله: إن صنعت شيئًا لا تتحرج من عرضه، ولربما قصيدة أو قصة محبة إنسانية تقود إلى المحبة الأكبر التي لا تنتهي.

ولا أنسى تعليقه ذات مرة على إحدى قصائدي؛ إذ قال: استمر في فتح جراح النفس وتقليبها وتعريتها للشمس لتطهرها، كما يفعل الفلاح بعزق وتقليب تربة أرضه لتتجدد. باختصار، كان عقلية منفتحة، لا تلوم أو تؤنب، بل تناقش وترشد وتفتح آفاقّا إنسانية أرحب.

وبين هذا التنوع بين البساطة والعمق اللذين يمارسهما بكل جدّيّة تليق بمعلم محب، كان ذا روح فكهة، ومحب للدعابة أينما إلتقطها أو قالها أحد أمامه، حكى لي ذات مرة؛ إنه ومعه الأخ فهيم صموئيل والأخ جمعة نصيب، وكلاهما من كبار الإخوة بالكنيسة الإنجيلية، وكانا صديقين متلازمين بل تربطهما علاقات نسب ومصاهرة متبادلة فابن هذا متزوج من ابنة الثاني، وكانا طوال الوقت في صراع محبب ومنافسة روحية جميلة في المجيء بعظات جديدة، وكانوا في رحلة إلى الإسكندرية لقضاء بضعة أيام في بيت السلام بالعجمي حيث تقام مؤتمرات روحية ونهضات صلاة يحضرها قادة السنودس الإنجيلي وكبار الطائفة الإنجيلية من كل أرجاء مصر، وبينما هم في القطار المتجه إلى مدينة الثغر، فوجئ الأخ فهيم أن أحدهم سرق ساعة الجيب التي يحملها في جيب الساعة الصغير بجلبابه الصوف، وفي لحظات تمكنوا من الإمساك باللص وهو يحاول إخفاء الساعة، ولما سألوه ليه سرقت الساعة يا أخي؟ أجابهم: ودي عايزة سؤال برضه، هي عجبتني فقلت آخدها شويه! وحين سألوه عن اسمه قال : اسمي جمعة.

هنا انفجر الجميع في الضحك، ولم يفوّت القس ناجي في الموقف المدهش وقال موجها كلامه للأخ فهيم: يبدو أن الأخ جمعة وراك وراك يا أخ فهيم!

ورغم امتداد سنوات خدمته التي قاربت على الخمسة وخمسين عامًا، لم يجن ثروة يورثها لأبنائه، سوى ماورثه هو عن والده من أراض زراعية، غير أن الإرث الحقيقي الذي تركه القس ناجي فرنسيس لأولاده وبناته ومعظم عارفيه، كان تلك الشجرة المثمرة دومًا والتي تأخذ منها فتزداد إثمارًا وهي شجرة المحبة غير المشروطة بشروط،  وبالفعل بعد رحيله جسديًا عن عالمنا، رأينا أفكاره ورؤاه ومازرعت يداه، كل هذا يثمر في أبنائه، وكأنه طائرٌ ترك جناحين يكملان بعضهما، فها هو ابنه الأكبر رفيق ناجي فرنسيس يواصل العمل الخدمي والاجتماعي بالهيئة القبطية الإنجيلية للخدمات الاجتماعية، والجناح الثاني يمثله القس رأفت ناجي الذي يحمل ذات الرسالة مستظلاً بأغصان بساتين المحبة التي بذرها الوالد، ومستنيرًا بمبادئه وأهمها؛ أن المحبة أهم من الوعظ، ومد اليد بالمساعدة لانتشال غريق أجدى ألف مرة من النصائح الكلامية عن فنون العوم.


القس رأفت ناجي مع والده القس ناجي فرنسيس

اترك تعليقاً

‫شاهد أيضًا‬

ماتريوشكا قارورة المحيميد

.. “هكذا علمتني أمي منذ الطفولة؛ أن أحترس من الغرباء، أن أنكفئ إلى داخلي، أن أختزن ع…