‫الرئيسية‬ الأخبار فن وثقافة الأُسطى وهيب أبواليمين.. لَقَدْ نُودِيتَ بِاسْمِكَ
فن وثقافة - منوعات - 6 ديسمبر، 2020

الأُسطى وهيب أبواليمين.. لَقَدْ نُودِيتَ بِاسْمِكَ

سمعنا عن الفردوس لكنني عشته في صنيع الغرباء بي لأجل جدّي

وهيب ابي 333

الأُسطى وهيب أبواليمين.. لَقَدْ نُودِيتَ بِاسْمِكَ ..”إِنْهَضْ

فَلَنْ تَفْنَى
لَقَدْ نُودِيتَ بِاسْمِكَ
لَقَدْ بُعِثْت”..
حين بدأت أعي وجودي وعائلتي كصبي ابن اثنتي عشرة عامًا، كان أهالي قلندول البعيدين عن “حتتنا” أوالمنطقة الموجود بها بيتنا، ما أن يعرفوا أنني حفيد الأسطى وهيب، يحيطونني بمحبة وترحيب كبيرين لم أكن وقتها أجد تفسيرًا لهما، وحين صرت شابًا وكلما ذهبت إلى قرية من القرى المجاورة، للمشاركة في مناسبة أو حدث اجتماعي أو لزيارة أصدقاء وأقارب، وما أن يذكر أحدهم في الجلسة اسمي كاملاً، يفاجئني أحد الرجال الكبار أوالمسنين بالقول: رحم الله جدك عمي الأسطى وهيب، ويدهشني أكثر حين يتأكد أنني حفيد ذلك الرجل البسيط الراقد الآن في موضع الراحة، فيحتفي كثيرًا بي وهو يسترسل في الحكايات والذكريات مع عم وهيب!
كنت في تلك السنوات البعيدة، مازلت- رغم بلوغي الخامسة والعشرين من عمري- على يقين الأطفال أن جدي في الجنة أو على الأقل في مكان أجمل مما نعيشه نحن، ربما تأكد هذا اليقين بجملة جدتي رحمها الله حين كان يسألها ذلك الطفل الذي كنته آنذاك: “هو سيدي راح فين يا ستي” فتجيب: “سيدك راح السما” لذلك قضيت طفولتي كلها وحتى الآن لا أكفَّ عن النظر إلى السماء، أتابع السحب والغيوم وهي تتحرك بطيئة، وكأنها بالضبط في مخيلة طفل مثلي تقلد جدي في هدوئه وخفته وبساطته، وتتشكل في هيئات مختلفة فأخالها صور الراحلين، وفي القلب منهم جدي فهو بالطبع في ناظريَّ أكبر غيمة وسط هذه السحب المتتابعة، وربما ما غذّى ذلك اليقين لديَّ ما لمسته في سنوات الطفولة القليلة التي عاصرت فيها الجد وهيب، بالفعل كان بسيطًا خفيفًا كسحابة مرت سريعًا ولكنها أمطرتني وكل العائلة والجيران والأقارب والمعارف بأنهار محبة لا تنتهي، وها هو حتى بعد رحيله بأكثر من 20 عامًا وقتها، أراه وألمسه في بعض ينابيع محبة وتقدير لدي غرباء لا أعرفهم ولم ألتق بهم إلا مصادفةً فيغدقون عليّ كرمًا ومحبةً وكأنهم يفعلون هذا لذكرى الجد، تلك التصرفات هي ما منحتني تفسيرات أخرى لأمور غيبية كالجنة والنار والإقامة الفردوس وسكن السماء إلى آخر هذه المفاهيم والتصورات، وأيقنت تمامًا أن كل هذه الأمور لن تخرج بعيدًا عن السيرة الحسنة، وكما يقولون “السيرة أطول من العمر” حقا رغم طول السنوات التي يعيشها الإنسان، فإن ما يبقى منه هو صدى أفعاله وسلوكياته لدى الناس، لذا ترسخ لديّ أن الجنة والنار ما هي إلا الحضور في تلك السيرة الحسنة واستمرارها، وثمارها التي يجنيها اللاحقون، أو السكوت عنها وعدم ذكر اسم صاحبها إذا كانت سيرة سيئة أو بها ما يشوب إنسانية الإنسان، وقديمًا كتب أجدادنا قدماء المصريين على متون التوابيت أو ما دَرَج البعض-جهلاً- على تسميته بكتاب الموتى إلا أن التسمية الأصل هي “نصوص الخروج إلى النهار”:
” يَا مَنْ تَذْهَبْ سَتَعُودْ
يَا مَنْ تَنَامُ سَوْفَ تَنْهَضْ
يَا مَنْ تَمْضِي سَوْفَ تُبْعَثْ
فَالْمَجْدُ لَكْ
لِلسَّمَاءِ وَشُمُوخِها
لِلأَرضِ وَعَرْضِهَا
لِلْبِحَارِ وَعُمْقِهَا
إِنْهَضْ
فَلَنْ تَفْنَى
لَقَدْ نُودِيتَ بِإِسْمِكْ
لَقَدْ بُعِثْتْ”
رغم مرور أكثر من خمسين عامًا على تلك الوقائع، إلا أن طفل السنة الثالثة الابتدائية لا يزال يذكرها مستعذبًا، خاصة صباح كل أحد، كيف كان كعفريت نحيل ودون أن يطالبه أحد الكبار بذلك، يعاني في فك قيد الحمار بأصابعه الرفيعة، ويفرح كثيرًا حين تنادي عليه الطفلة فوزية خلف عبدالرحيم والصبي الذي يكبرهما إلهامي سعد يوسف، كل منهما فوق حماره، ليكتمل بذلك موكب الثلاثي لانتظار العائدين من عملهم، وينطلق الركب وكأنه سباق فرح من قلندول وحتى محطة السكة الحديد في أم تسعة.

والأُسطى وهيب أبواليمين.. لَقَدْ نُودِيتَ بِاسْمِكَ والطفل الذي كنته في هذا اليوم بالذات يوم الأحد، لم يكن يطالب جدته أو أباه بقرش تعريفة “5مليمات” يشتري بها الحلوى؟!، صباح الأحد هو صباح الفرح والنغنغة، خاصة حين تظهر مقدمة قطار الساعة السابعة والربع، سيأتي الجد وهيب حاملا منديلاً كبيرًا مصرورًا فيه الفول السوداني واللحوم وغيرها، وشنطة ورق بها فواكه وعلب سجائر متنوعة، ينزل من القطار؛ عجوز ربعة قارب الستين، يسير هادئًا لكن بقوة وتد مزروع في الأرض، ورغم أنه يرتدى جلبابه الصوف وليس جلباب العمل إلا أن رائحة الدقيق القمح والذرة كانت تفوح منه فتمنح الطفل الذي يتشبث ممسكًا بملابس جده من الخلف فوق ظهر الحمار إحساسًا غريبًا بالشبع والدفء والمحبة العجيبة، عشقت رائحة جدي هذه، وكنت أظنها خاصة به وحده،

الأُسطى وهيب أبواليمين.. لَقَدْ نُودِيتَ بِاسْمِكَ حتى ظللت لسنوات طويلة رغم بلوغي مرحلة الشباب ومغادرتي لها لمرحلة الكهولة أعشق الذهاب إلى طاحونة ثابت صموئيل وأي طاحونة بالبلد أو في غيرها من بلاد مجاورة أزورها، لأعبئ خياشيم روحي بتلك الرائحة الذكية.

يالأُسطى وهيب أبواليمين.. لَقَدْ نُودِيتَ بِاسْمِكَ يوم الأحد هو يوم وهيب، ما أن نصل إلى البيت، يعطي مايحمله إلى الجدة، وتكون إحدى عماتي مجهزة حلة المياه الساخنة والطشت والملابس النظيفة لأبيها، يدخل إلى آخر غرف البيت، ويبدأ في الاستحمام، وماهي إلا لحظات ويأتي دوري، حين ينادي عليّ: تعال يا سيدنا يوسف، ادعك لي الحتة اللي مش طايلها من ضهري، ولا أدري انطلاقي بسرعة لأداء تلك المهمة كان محبة لجدي أم استمتاعًا بالمياه الدافئة خاصة في الشتاء، أم فرحة باكتشاف أنني أفعل شيئًا مهمًا، أم هي المكافأة التي سأنالها بعد أن ينتهي من الحمام، ويجلس تحت شجرة الجميزة يشرب شاي أم إدوار بنشوة عجيبة، سينفحني قرشين صاخ بحالهم يا جدع! ربما وهذا هو الأرجح كانت المكافأة هي كل ما يشغلني ويهمني في ذلك الوقت، طوال أيام الأسبوع من الاثنين وحتى صباح الأحد، لم يكن أحد في البيت يعرف أو يهتم بأسئلة من نوعية ماذا يفعل الجد وهيب طوال هذه الأيام الستة، ولا أين يريح جسده وأين وماذا يأكل، إلا وهو يتأهب لمغادرة البيت راجعًا إلى عمله،

الأُسطى وهيب أبواليمين.. لَقَدْ نُودِيتَ بِاسْمِكَ حيث تقول له الجدة: خد البطانية دي معاك يا وهيب افرشها في غرفتك على الكنبة اللي بتنام عليها علشان برد الشتا شديد، وأنا صريت لك في المنديل المحلاوي الكبير شوية كشك وعلبة فيها زبدة بلدي وأنت ابقى اشتري لك بيضتين بقرش وللا تلاتة كل يوم واتغدى، وربنا يسترها معاك ياغالي” ويظل جالسًا تحت الجميزة حتى يأتي زميله خلف عبد الرحيم لينطلقا عائدين إلى عملهما في مدينة ملوى وقراها.

والأُسطى وهيب أبواليمين.. لَقَدْ نُودِيتَ بِاسْمِكَ ولأن الفرح لا يدوم، بدأت أعوام الحزن بالعام 1970، حين رحل جمال عبد الناصر، وبعده بأقل من شهر رحل الجد وهيب، لا يزال الطفل يعيش تلك اللحظات التي لم يكن يفهمها لكنها كانت عصيبة، رأيته يبكي كطفل حين مات الزعيم، وفي الأسبوع التالي؛ جاء بصورة كبيرة له وقال دي صورة أخو الفقراء، وسند اللي مالهوش سند، ولم تتبلور هذه الحالة إلا في العام 1990 أي بعد عشرين عامُا من حدوثها، حيث كتب الطفل الذي صار شابًا في الثلاثين من عمره قصيدة “هزائم أخرى” ومنها:
“منذ عشرين عامًا أخرجني المدرس من حصة الدين
ولم أدرك لماذا؟!
الفِناء لي وحدي.. انتشيتُ.. أيةُ نشوةٍ؟!
أخاف أن يموت مدرس الفصل..
ويأتي صاحبي في الفصل ليخرجني من جسدي..
كيف تصير لماذا سؤالاً مفخخًا أمام طفل؟!
منذ عشرين عامًا بكى جدي على صوت عبدالناصر..
بكيت ساعتها لجدي ولم أدرك لماذا؟..”
وربما كان رحيل جدي هو ماغطى أحزان أبي وجدتي على موت عبدالناصر، ظل أبي لمدة أربعين يومًا لا يأكل الحلو ولا أدخل أي حلوى بيتنا، واستطالت لحيته حتى بدا ككاهن أو شيخ طاعن في السن، فحلاقة الذقن كانت في ظنه وظن أبناء جيله ومن سبقوهم هي فعل من أفعال التزين، وبالتالي الفرح، ومن أين لمثله هذا الفرح وقلبه مجروح مرتين بفقده السند العام عبدالناصر، وسنده الخاص والده، صار عجوزًا فجأة بعد وفاة أبيه، أما الجدة فقد ظلت لمدة تزيد على ثلاثة عشر عامًا حتى رحيلها، لا ترتدي سوى الثياب السوداء سواء خارج البيت أو داخله، ولسنوات أيضًا كفّت عن صنع أي من حاجات الأعياد كالبسكوت والغريبة والكعك، وكانت تعلق دائمًا: مادام الغالي راح كل الأعياد والأفراح راحت.

الأُسطى وهيب أبواليمين.. لَقَدْ نُودِيتَ بِاسْمِكَ وفي شهر سبتمبر ذاته أيضًا، نقص الركب الذي كان ينتظرون آباءهم وأجدادهم كل أحد، غاب الصبي الجميل إلهامي سعد يوسف، حين سافر إلى القاهرة من وراء أهله ليشارك في تشييع الزعيم، وظللنا نحن الاطفال لا نصدق أن إلهامي الشاب الجميل الذي يضحك دائمًا ويدافع عننا إذا ما اعتدى علينا الأشقياء من أطفال المناطق الأخرى، وحين سألنا الكبار، قيل لنا أنه مفقود مثل كثيرين فُقدوا وسط الزحام الهادر الذي ظل لأكثر من خمسة أيام في شوارع القاهرة، أمواج من الدموع والنحيب تجتاح شوارع المحروسة وميادينها والجموع رغم أحزانها المتفجرة لم تكن تصدق أن الزعيم مات.

الأُسطى وهيب أبواليمين.. لَقَدْ نُودِيتَ بِاسْمِكَ غير أن كثيرين مثل العجوز الجميل حسن عبدالرشيد في إحدى قرى غروب ملوي، يمنحونني فرحًا ما بعده فرح، خاصة وهم بحكاياهم يؤكدون لي ما قلته سابقًا؛ أن الجنة أو فردوس النعيم هو ما تركه الجد بسيرته لمن بعده من أبناء وأحفاد، أحببت الجد حسن كأنه جدي وهيب بالضبط خاصة وهو يحكي لي طوال ساعات كيف كانت الغلال بعد طحنها يكون فيها بركة ودقيقها ناعم جدًا خاصة إذا كان من طحنها عم وهيب، وقال: الشهادة لله عم الأسطى وهيب لم يكن مجرد طحّان، بل كان أيضًا يصلح ماكينات الطحين وعصارات القصب، بعد أن يفرغ من ورديته الأساسية في طاحونة عبد العزيز بملوي، أما تصليح طرمبات المياه التي لم يكن سواها مصدرًا لمياه الشرب في بلادنا، فكان يفعلها بدون أجر، ويقول لي ياحسن يا خويا: “يا بخت اللي يسقي عطشان” علشان كده ياولدي كل الناس كانت بتحبه، وبقيت ذكراه حسنة بين الجميع.

اترك تعليقاً

‫شاهد أيضًا‬

فهد العتيق قاطع طريق روائي

.. “قاطع طريق مفقود”.. ما أن تقع عيناك على هذه الجملة فوق غلاف رواية فهد العتي…