‫الرئيسية‬ الأخبار فن وثقافة أبلة روجينا.. بَتُول نذرت نفسها لرعاية أبناء شقيقها وأطفال بلدها قلندول
فن وثقافة - منوعات - 24 أكتوبر، 2020

أبلة روجينا.. بَتُول نذرت نفسها لرعاية أبناء شقيقها وأطفال بلدها قلندول

رائدة التنمية البشرية عمليًا ورمز إنكار الذات دون بروباجندا إعلامية

.png

مسافة لا تزيد عن خمسمائة متر كانت تفصلنا بين عالمين، عالم بيوتنا الريفية البسيطة، ومشهد أمهاتنا بجلابيب البيت المشجرة ذات التفصيلة المتميزة، أوجداتنا في الجلباب الأسود، وكان معروفًا باسم “القميص الأسود” والشال القطيفة أوالحرير، وبين مشهد الأبلوات “أي مدرسات المدرسة الابتدائية الوحيدة بقلندول، وبعض الموظفات في المجلس القروي آنذاك. من بين هؤلاء؛ كانت الأبلة نوال بحكم أنها مدرستنا من أولى ابتدائي حتى السنة الخامسة، والثانية بل الأولى هي الأبلة “روجينا” التي تُدير وتُشرف على الحضانة الوحيدة، فهي زارعة البذور الأولى للتربية الحقيقية داخلنا نحن الأطفال وأعني بهم أبناء جيلي ممن تجاوزوا الخمسين عاما من العمر، وأيضًا من جاءوا بعدنا، حتى حدث ماحدث وجاء الانفتاح الاقتصادي، وتشوهت المعالم، واختفى مفهوم التربية من فكر المحليات، وصار التعليم- أيضًا- في خبر كان بسبب السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي أضرت بالمعلم في بادئ الأمر، ومن ثم دمرت أجيالاً بكاملها، إلا من نَجَا بجهده الخاص ومثابرته في تعليم نفسه فيما بعد.

لم تكن أبلة روجينا أيوب المولودة في العام 1939 مجرد موظفة أوآنسة ترتدي زي الأبلوات “جيبة وبلوزة أوقميص أبيض فوقه جاكت كحلي أوبلوفر مشغول من الصوف والتريكو، أو تايير وهذا كان نادرًا جدًا” بل كانت أبلة روجينا أيوب علامة من علامات المكان والزمان، شابة ممشوقة القوام مرفوعة الرأس دومًا، متأهبة دومًا كأنها ستخوض معركة مقبلة، ولِمَ لا؟.. فقد كانت في زمن من النادر أن تجد فيه امرأة تعمل في وظيفة عامة وتواجه المجتمع وتفرض نفسها على رجال بشوارب، ورغم ذلك لم تكن أيًّ من هذه الصرامة أوتلك الحدة جوهرية داخلها، أي نعم كانت حادة الملامح تجاه شقاوتنا كأطفال، لكنها حنونة علينا حين نكون مطيعين؛ تعلمنا الأعداد وتعرض علينا الصور الجميلة، والمتميز منا تعطي له الفرصة لركوب الحصان الخشبي الصغير الموجود بالحضانة، وكانت تلك اللحظة كفيلة بإسعادنا طيلة يومنا وفي الليل نظل نحلم بمكافآت أبلة روجينا حتى اليوم التالي.

وبطبيعة السن كنا كتلاميذ في السنة الثالثة الابتدائية نتشاكل سويًا على أتفه الأسباب، حتى أن أحدنا مزق مخلاة زميله والمخلاة هي شنطة الكتب التي كانت تصنعها لنا أمهاتنا من القماش الدمور أو الدبلان أو بقايا الجلاليب القديمة، فما كان من أبلة روجينا إلا أنها جمعت الطفلين وصالحتهما وعلمتهما درسًا مفيدًا، إذ أنها جاءت بالطفل المعتدي وأفهمته أن هذا شقيقه في الحياة وسيكبرون سويًا ويصيرون أصدقاء، ثم دخلت غرفة مكتبها وجاءت بقطعة قماش ورتقت بها المخلاة الممزقة وأعادتها أجمل مما كانت عليه، رغم فرحة الطفل المسكين المُعتدى عليه، إلا أنه ظل يبكي، وحين سألته: بتعيط ليه يا حبيبي؟! قال لها وهو يشهلق: المفروكة بتاعتي اتبعترت في التراب، والمفروكة لمن لا يعرف هي عيش بتاو مكسر فتافيت صغيرة مخلوط بالجبن أو السمن؛ كل حسب مقدرة أهله، طبطبت عليه وأخذته من يده وغسلت له وجهه، وقالت له ولا يهمك، أنا ها اجيب لك حاجة حلوة، وأرسلت سعدية التي كانت تعمل فراشة معها في الحضانة لتشتري شقة رغيف مملوءة بالمكرونة من عند عم “رجب طِلِب الطباخ”، فرح الطفل أيما فرح وهو يأكل الساندوتش وأعطى زميله لقمة منه فتصالحا، وضحكا ولعبا سويًّا، وفي نهاية اليوم ذهبا معًا في الطريق وهما متشابكي الأيدي، ثم انطلق كلٌّ منهما إلى بيته.

قلندول كلها من قبلي إلى بحري، تعرف أستاذة روجينا، من يلتقيها في الطريق من بيتها إلى الوحدة المجمعة أوالمجموعة كما كنا نسميها آنذاك، يحييها تحية إكرام وتقدير، لم تكن تخشى شيئًا، وليس هناك من تخشاه، إلا ضميرها في عملها وتعاملها مع الآخرين، لذا كانت دون أن تدري في حماية الجميع.

أبلة روجينا أيوب
معظم أبناء جيلي ممن عاصروا هذه الأيام كنا نظن أن الطفل جوزيف الذي يلعب معنا أيضًا هو ابنها، ولم نعرف إلا بعد أن انتقلنا إلى المدرسة الإعدادية بالروضة بلد أن جوزيف هو ابن شقيقها الأستاذ ناجي أيوب الذي كان يعيش معها في نفس البيت، وكما يقول الأستاذ إيهاب ألفي مدرس اللغة الإنجليزية ابن شقيقها الثاني، أن عمته الأستاذة روجينا ولدت بمدينة المنيا في العام 1939، ثم جاءت إلى قلندول حين تم تعيينها مشرفة حضانة، وحين تُوُفّيَت الزوجة الأولى لعمي ناجي؛ أحضرت ابن عمي الأستاذ جوزيف- الآن هو مدير مكتب محاسبة بأمريكا- وكان آنذاك طفلا لتربيه وترعاه حتى حصل على بكالوريوس التجارة من جامعة أسيوط، وسافر فيما بعد إلى أمريكا.

ولم تتوقف رسالتها عند ذلك، فقد حدث وتوفيت الزوجة الثاني للأستاذ ناجي وتركت له ستة أبناء منهم أربع بنات وولدين، ثابرت معهم جميعًا أيضًا، حتى تخرجوا جميعًا من التعليم الجامعي، إلا الصغرى فقد اتخذت سلوك عمتها في خدمة الناس وترهبنت بدير البتول في قرية دير أبو حنس شرق مدينة ملوي.

مارست إنكار الذات كما يجب دون أي ضجيج او بروباجندا، تولت الجميع بالرعاية والاهتمام، حتى أنها نذرت نفسها وارتضت البتولية لأداء مهمتها مع أبناء أشقائها جميعاً، ولم تتأخر في مساعدة ونصح الغرباء أيضًا، وظلت أبلة روجينا أيوب تشرف على الحضانة الوحيدة في البلد، ولم تكن تهتم بالأطفال فقط، بل كانت تعلم امهاتهم أعمال التطريز وشغل التريكو، ثم انتقلت للعمل بمجلس محلي قلندول حتي تمت إحالتها إلى المعاش عام 1999.

أبلة روجينا وابن شقيقها

 

اترك تعليقاً

‫شاهد أيضًا‬

امتدادات الزمن النفسي في إبداعات محمد حسن علوان

*   على غير نسق مسبق، وخلافًا لما تعارف عليه المهتمون بالرواية؛ إن متلقين أونقادًا وروائيي…